فصل: المسألة السابعة عشرة: (هل يدخل المخاطِب في عموم خطابه)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ***


الفصل العاشر‏:‏ ‏[‏حكم الأمر بالماهية الكلية‏]‏

اختلفوا أهل الأمر بالماهية الكلية يقتضي الآمر بها أو بشيء من جزئياتها على التعيين أم هو أمر بفعل مطلق تصدق عليه الماهية ويخبر به عنها صدق الكلي على جزئياته من غير تعيين‏؟‏ فذهب الجمهور إلى الثاني وقال بعض الشافعية بالأول‏.‏

احتج الأولون بأن الماهية الكلية يستحيل وجودها في الأعيان فلا تطلب وإلا امتنع الامتثال وهو خلاف الإجماع ووجه ذلك أنها لو وجدت في الأعيان لزم تعدها كلية في ضمن الجزئية فمن حيث أنها موجودة تكون شخصية جزئية ومن حيث إنها الماهية الكلية تكون كلية وأنه محال فمن قال لآخر بع هذا الثوب فإن هذا لا يكون أمر ببيعه بالغبن ولا بالثمن الزائد ولا بالثمن المساوي لأن هذه الأنواع مشتركة في مسمى البيع وتمييزه كل واحد منها بخصوص كونه بالغبن أو بالثمن الزائد أو المساوي وما به الاشتراك غير ما به الامتياز وغير مستلزم له فالأمر بالبيع الذي هو جهة الاشتراك لا يكون أمرا بما به يمتاز كل واحد من الأنواع عن الآخر بالذات ولا يالاستلزام وإذا كان كذلك فالأمر بالجنس لا يكون ألبتة أمرا بشيء من أنواعه لكن إذا دلت القرينة على إرادة بعض الأنواع حمل اللفظ عليه‏.‏

قال في المحصول وهذه قاعدة شريفة برهانية ينحل بها كثير من القواعد الفقهية إن شاء الله ومما يوضح المقام ويحصل به المرام من هذا الكلام ما ذكره أهل علم المعقول من أن الماهيات ثلاث‏:‏

الأول‏:‏ الماهية لابشرط شيء من القيود ولا بشرط عدمها وهي التي يسميها أهل المنطق الماهية المطلقة ويسمونها الكلي الطبيعي والخلاف في وجودها في الخارج معروف والحق أن وجود الطبيعي بمعنى وجود أشخاصه‏.‏

والثانية‏:‏ الماهية بشرط لا شيء‏:‏ أي بشرط خلوها عن القيود ويسمونها الماهية المجردة ولا خلاف بينهم في أنها لا توجد في الخارج‏.‏

والثالثة‏:‏ الماهية بشرط شيء من القيود ولا خلاف في وجودها في الخارج‏.‏

وتحقيقه أن الماهية قد تؤخذ بشرط أن تكون مع بعض العوارض كالإنسان بقيد الوحدة فلا يصدق على المتعدد وبالعكس وكالمقيد بهذا الشخص فلا يصدق على فرد آخر وتسمى الماهية المخلوطة والماهية بشرط شيء ولا ارتياب في وجودها في الأعيان وقد تؤخذ بشرط التجرد عن جميع العوارض وتسمى المجردة والماهية بشرط لا شيء ولا خفاء في أنها لا توجد في الأعيان بل في الأذهان وقد تؤخذ لا بشرط أن تكون مقارنة أو مجردة بل مع تجويز أن يقارنها شيء من العوارض وأن لا يقارنها وتكون مقولا على المجموع حال المقارنة وهي الكلي الطبيعي والماهية لا بشرط شيء والحق وجودها في الأعيان لكن لا من حيث كونها جزءا من الجزئيات المحققة على ما هو رأي الأكثرين بل من حيث إنه يوجد شيء تصدق هي عليه وتكون عينه بحسب الخارج وإن تغايرا بحسب المفهوم وبمجموع ما ذكرناه يظهر لك بطلان قول من قال إن الأمر بالماهية الكلية يقتصر الأمر بها ولم يأتوا بدليل يدل على ذلك دلالة مقبولة‏.‏

الفصل الحادي عشر‏:‏ ‏[‏إذا تعاقب أمران بمتماثلين هل يكون الثاني للتأكيد أم للتأسيس‏]‏

اختلفوا إذا تعاقب أمران بمتماثلين هل يكون الثاني للتأكيد فيكون المطلوب الفعل مرة واحدة أو للتأسيس فيكون المطلوب الفعل مكررا وذلك نحو أن يقول صل ركعتين صل ركعتين فقال الجبائي وبعض الشافعية أنه للتأكيد وذهب الأكثر إلى أنه للتأسيس‏.‏

وقال أبو بكر الصيرفي بالوقف في كونه تأسيسا أو تأكيدا فكان الحمل على ما هو أكثر وإلحاق الأقل به أولى وبأن الأصل البراءة من التكليف المتكرر فلا يصار إليه مع الاحتمال ويجاب بمنع كون التأكيد أكثر في محل النزاع فإن دلالة كل لفظ على مدلول مستقل هو الأصل الظاهر وبمنع صحة الاستدلال بأصلية البراءة أو ظهورها فإن تكرار اللفظ يدل على مدلول كل واحد منهما أصلا وظاهرا لأن أصل كل كلام وظاهره الإفادة لا الإعادة وأيضا التأسيس أكثر والتأكيد أقل وهذا معلوم عند كل من يفهم لغة العرب‏.‏

وإذا تقرر لك رجحان هذا المذهب عرفت منه بطلان ما احتج به القائلون بالوقف من أنه قد تعارض الترجيح في التأسيس والتأكيد أما لو لم يكن الفعلان من نوع واحد فلا خلاف أن العمل بهما متوجه نحو صل ركعتين صم يوما وهكذا إذا كانا من نوع واحد ولكن قامت القرينة الدلالة على أن المراد التأكيد نحو صم اليوم صم اليوم ونحو صل ركعتين صل ركعتين فإن التقيد باليوم وتعريف الثاني يفيدان أن المراد بالثاني هو الأول وهكذا إذا اقتضت العادة أن المراد التأكيد نحو اسقني ماء وهكذا إذا كان التأكيد بحرف العطف نحو صل ركعتين وصل ركعتين لأن التكرير المفيد للتأكيد لم يعهد إيراده بحرف العطف وأقل الأحوال أن يكون قليلا والحمل على الأكثر أولى أما لو كان الثاني مع العطف معرفا بالظاهر التأكيد نحو صل ركعتين وصل الركعتين لأن دلالة اللام على إرادة التأكيد أقوى من دلالة حرف العطف على إرادة التأسيس‏.‏

الباب الثاني في النواهي

وفيه مباحث ثلاثة‏:‏

البحث الأول‏:‏ ‏[‏في معنى النهي لغة واصطلاحا‏]‏

اعلم أن النهي في اللغة معناه المنع يقال نهاه عن كذا أي منعه عنه ومنه سمي العقل نهية لأنه ينهى صاحبه عن الوقوع فيما يخالف الصواب ويمنعه عنه وهو في الاصطلاح القول الإنشائي الدال على طلب كف عن فعل على جهة الاستعلاء فخرج الأمر لأنه طلب فعل غير كف وخرج الالتماس والدعاء لأنه لا استعلاء فيهما وأورد على هذا الحد قول القائل كف بقيد عن كذا‏.‏

وأجيب بأنه يلتزم كونه من جملة أفراد النهي فلا يرد النقض به ولهذا قيل إن اختلافهما باختلاف الحيثيات والاعتبارات فقولنا كف عن الزنا باعتبار الإضافة إلى الكف أمر وإلى الزنا نهي وأوضح صيغ النهي لا تفعل كذا ونظائرها ويلحق بها اسم لا تفعل من أسماء الأفعال كمه فإن معناه لا تفعل وصه فإن معناه لا تتكلم وقد تقدم في حد الأمر ما إذا رجعت إليه عرفت ما يريد في هذا المقام من الكلام اعتراضا ودفعا‏.‏

البحث الثاني‏:‏ ‏[‏في معنى النهي حقيقة‏]‏

اختلفوا في معنى النهي الحقيقي؛ فذهب الجمهور إلى أن معناه الحقيقي هو التحريم وهو الحق ورد فيما عداه مجازا كما في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تصلوا في مبارك الإبل» فإنه للكراهة وكما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا‏}‏ فإنه للدعاء وكما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تسألوا عن أشياء‏}‏ فإنه للإرشاد وكما في قول السيد لعبده الذي لم يمتثل أمره لا تمتثل أمري فإنه للتهديد وكما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمدن عينيك‏}‏ فإنه للتحقير وكما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الله غافلا‏}‏ فإنه لبيان العاقبة وكما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تعتذروا اليوم‏}‏ فإنه للتأييس وكما في قولك لمن يساويك لا تفعل فإنه للالتماس والحاصل أنه يرد مجازا لما ورد له الأمر كما تقدم ولا يخالف الأمر إلا في كونه يقتضي التكرار في جميع الأزمنة وفي كونه للفور فيجب ترك الفعل في الحال قيل ويخالف الأمر أيضا في كون تقدم الوجوب قرينة دالة على أنه للإباحة‏.‏

ونقل الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني الإجماع على أنه لا يكون تقدم الوجوب قرينة للإباحة‏.‏

وتوقف الجويني في نقل الإجماع ومجرد هذا التوقف لا يثبت له في نقل الأستاذ واحتج القائلون بأنه حقيقة في التحريم بأن العقل يفهم الحتم من الصيغة المجردة عن القرينة وذلك دليل الحقيقة‏.‏

واستدلوا أيضا باستدلال السلف بصيغة النهي المجردة عن التحريم وقيل أنه حقيقة في الكراهة‏.‏

واستدلوا على ذلك بأن النهي إنما يدل على مرجوحية المنهي عنه وهو لا يقتضي التحريم وأجيب بمنع ذلك بل السابق إلى الفهم عند التجرد هو التحريم وقيل مشترك بين التحريم والكراهة فلا يتعين أحدهما إلا بدليل وإلا كان جعله لأحدهما ترجيحا من غير مرجح وقالت الحنفية إنه يكون للتحريم إذا كان الدليل قطعيا ويكون للكراهة إذا كان الدليل ظنيا ورد بأن النزاع إنما هو في طلب الترك وهذا طلب قد يستفاد بقطعي فيكون قطعيا وقد يستفاد بظني فيكون ظنيا‏.‏

البحث الثالث‏:‏ في اقتضاء النهي للفساد

فذهب الجمهور إلى أنه إذا تعلق النهي بالفعل بأن طلب الكف عنه فإن كان لعينه أي لذات الفعل أو لجزئه وذلك بأن يكون منشأ النهي قبحا ذاتيا كان النهي مقتضيا للفساد المرادف للبطلان سواء كان ذلك الفعل حسيا كالزنا وشرب الخمر أو شرعيا كالصلاة والصوم والمراد عندهم أنه يقتضيه شرعا لا لغة وقيل إنه يقتضي الفساد لغة كما يقتضيه شرعا وقيل أن النهي لا يقتضي الفساد إلا في العبادات فقط دون المعاملات وبه قال أبو الحسين البصري والغزالي والرازي وابن الملاحي والرصاص‏.‏

واستدل الجمهور على اقتضائه للفساد شرعا بأن العلماء في جميع الأعصار لم يزالوا يستدلون به على الفساد في أبواب الربويات والأنكحة والبيوع وغيرها وأيضا لو لم يفسد لزم من نفيه حكمة يدل عليها النهي ومن ثبوته حكمة تدل عليها الصحة واللازم باطل لأن الحكمتين إن كانتا متساويتين تعارضتا وتساقطتا فكان فعله كلا فعل وامتنع النهي عنه لخلوه عن الحكمة وإن كانت حكمة النهي مرجوحة فأولى لفوات الزائد من مصلحة الصحة وهي مصلحة خالصة وإن كانت راجحة امتنعت الصحة لخلوه عن المصلحة أيضا بل لفوت قدر الرجحان من مصلحة النهي واستدلوا على عدم اقتضائه للفساد لغة بأن فساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه وليس في لفظ النهي ما يدل عليه لغة قطعا‏.‏

واستدل القائلون بأنه يقتضيه لغة كما يقتضيه شرعا بأن العلماء لم يزالوا يستدلون به على الفساد‏.‏

وأجيب بأنهم إنما استدلوا به على الفساد لدلالة الشرع عليه لا لدلالة اللغة واستدلوا ثانيا بأن الأمر يقتضي الصحة لما تقدم والنهي نقيضه والنقيضان لا يجتمعان فيكون النهي مقتضيا للفساد وأجيب بأن الأمر يقتضي الصحة شرعا لا لغة فاقتضاء الأمر للصحة لغة ممنوع كما أن اقتضاء النهي للفساد لغة ممنوع‏.‏

واستدل القائلون بأنه لا يقتضي الفساد إلا في العبادات دون المعاملات بأن العبادات دون المعاملات بأن العبادات المنهى عنها لو صحت لكانت مأمورا بها ندبا لعموم أدلة مشروعية العبادات فيجتمع النقيضان لأن الأمر لطلب الفعل والنهي لطلب الترك وهو محال وأما عدم اقتضائه للفساد في غير العبادات فلأنه لو اقتضاه في غيرها لكان غسل النجاسة بماء مغصوب والذبح بسكين مغصوبة وطلاق البدعة والبيع في وقت النداء والوطء في زمن الحيض غير مستتبعة لآثارها من زوال النجاسة وحل الذبيحة وأحكام الطلاق والملك وأحكام الوطء واللازم باطل فالملزوم مثله‏.‏

وأجيب بمنع كون النهي في الأمور المذكورة لذات الشيء أو لجزئه بل لأمر خارج ولو سلم لكان عدم اقتضائها للفساد لدليل خارجي فلا يرد النقيض بها وذهب جماعة من الشافعية والحنفية والمعتزلة إلى أنه لا يقتضي الفساد لا لغة ولا شرعا لا في العبادات ولا في المعاملات قالوا لأنه لو دل على الفساد لغة أو شرعا لناقض التصريح بالصحة لغة أو شرعا باطل أما الملازمة فظاهرة وأما بطلان اللازم فلأن الشارع لو قال نهيتك عن الربا نهي تحريم ولو فعلت لكان البيع المنهى عنه موجبا للملك لصح من غير تناقض لا لغة ولا شرعا وأجيب بمنع الملازمة لأن التصريح بخلاف النهي قرينة صارفة له عن الظاهر ولم ندع إلا أن ظاهره الفساد فقط‏.‏

وذهبت الحنفية إلى ما لا تتوقف أن معرفته على الشرع كالزنا وشرب الخمر يكون النهي عنه لعينه ويقتضي الفساد إلا أن يقوم الدليل على أنه منهي عنه لوصفه أو المجاور له فيكون النهي حينئذ عنه لغيره فلا يقتضي الفساد كالنهي عن قربان الحائض وأما الفعل الشرعي وهو ما يتوقف معرفته على الشرع فالنهي عنه لغيره فلا يقتضي الفساد ولم يستدلوا على ذلك بدليل مقبول والحق أن كل مهي من غير فرق بين العبادات والمعاملات يقتضي تحريم المنهي عنه وفساده المرادف للبطلان اقتضاء شرعيا ولا يخرج من ذلك إلا ما قام الدليل على عدم اقتضائه لذلك فيكون هذا الدليل قرينة صارفة له من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي ومما يستدل به على هذا ما ورد في الحديث المتفق عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد» والمنهي عنه ليس عليه أمرنا فهو رد وما كان ردا أي مردودا كان باطلا وقد أجمع العلماء مع اختلاف أعصارهم على الاستدلال بالنواهي على أن المنهي عنه ليس من الشرع وأنه باطل لا يصح وهذا هو المراد بكون النهي مقتضيا للفساد وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» فأفاد وجوب اجتناب المنهي عنه وذلك هو المطلوب ودع عنك ما روعوا به من الرأي هذا إذا كان النهي عن الشيء لذاته أو لجزئه أما لو كان النهي عنه لوصفه وذلك نحو النهي عن عقد الربا لاشتماله على الزيادة فذهب الجمهور إلى أنه لا يدل على فساد المنهي عنه بل على فساد نفس الوصف واحتجوا لذلك بأن النهي عن الشيء لوصفه لو دل على فساد الأصل لناقض التصريح بالصحة كما مر وأيضا كان يلزم أن لا يعتبر طلاق الحائض ولا ذبح ملك الغير لحرمته إجماعا‏.‏

وذهب جماعة إلى أنه يقتضي فساد الأصل محتجيين بأن النهي ظاهر في الفساد من غير فرق بين كونه لذاته أو لصفاته وما قيل من جواز التصريح بالصحة فملتزم إن وقع ويكون دليلا على خلاف ما يقتضيه الظاهر وقد استدل أهل العلم على فساد صوم يوم العيد بالنهي الوارد عن صومه وليس ذلك لذاته ولا لجزئه لأنه صوم وهو مشروع بل لكونه صوما في يوم العيد وهو وصف لذات الصوم‏.‏

قال بعض المحققين من أهل الأصول أن النهي عن الشيء لوصفه هو أن ينهي عن الشيء مقيدا بصفة نحو لا تصل كذا ولا تبع كذا وحاصله ما ينهي عن وصفه لا ما يكون الوصف علة للنهي وأما النهي عن الشيء لغيره نحو النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة فقيل لا يقتضي الفساد لعدم مضادته لوجوب أصله لتغاير المتعلقين والظاهر أنه يضاد وجود أصله لأن التحريم هو إيقاع الصلاة في ذلك المكان كما صرح به الشافعي وأتباعه وجماعة من أهل العلم فهو كالنهي عن الصوم في يوم العيد لا فرق بينهما‏.‏

وأما الحنفية فيفرقون بين النهي عن الشيء لذاته ولجزئه ولوصف لازم ولوصف مجاور ويحكمون في بعض بالصحة وفي بعض بالفساد في الأصل أو في الوصف ولهم في ذلك فروق وتدقيقات لا تقوم بمثلها الحجة ثم النهي عن الشيء لذاته أو لجزئه الذي لا يتم إلا به يقتضي فساده في جميع الأحوال والأزمنة والنهي عنه للوصف الملازم يقتضي فساده ما دام ذلك الوصف والنهي عنه لوصف مفارق أو لأمر خارج يقتضي النهي عنه عند إيقاعه متصفا بذلك الوصف وعند إيقاعه في ذلك الأمر الخارج عنه لأن النهي عن إيقاعه مقيدا بهما يستلزم فساده ما داما قيدا له‏.‏

في العموم

وفيه ثلاثون مسألة‏:‏

المسألة الأولى‏:‏ في حده

وهو في اللغة شمول أمر لمتعدد سواء كان الأمر لفظا أو غيره ومنه قولهم عمهم الخير إذا شملهم وأحاط بهم وأما حده في الاصطلاح فقال في المحصول هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد كقوله الرجال فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له ولا تدخل عليه النكرات كقولهم رجل لأنه يصلح لكل واحد من رجال الدنيا ولا يستغرقهم ولا التثنية ولا الجميع لأن لفظ رجلان ورجال يصلح لكل اثنين وثلاثة ولا يفيد أن الاستغراق ولا ألفاظ العدد كقولنا خمسة لأنه يصلح لكل خمسة ولا يستغرقه وقولنا بحسب وضع واحد احتراز عن اللفظ المشترك والذي له حقيقة ومجاز فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معا انتهى‏.‏

وقد سبقه إلى بعض ما ذكره في هذا الحد أبو الحسين البصري فقال العام هو اللفظ المستغرق لما يصلح له ورد عليه المشترك إذا استغرق جميع أفراد معنى واحد واندفع الاعتراض عنه بزيادة قيد بوضع واحد ثم ورد عليه نحو عشرة ومائة ونحوهما لأنه يستغرق ما يصلح له من المتعدد الذي يفيده وهو معنى الاستغراق ودفع بمثل ما ذكره في في المحصول وقال أبو علي الطبري هو مساواة بعض ما تناوله لبعض واعترض عليه بلفظ التثنية فإن أحدهما مساو للآخر وليس بعام‏.‏

وقال القفال الشاشي أقل العموم شيئان كما أن الخصوص واحد وكأنه نظر إلى المعنى اللغوي وهو الشمول والشمول حاصل في التثنية وإلا فمن المعلوم أن التثنية لا تسمى عموما لا سيما إذا قلنا أقل الجمع ثلاثة فإذا سلب عن التثنية أقل الجمع فسلب العموم عنها أولى‏.‏

وقال المازري العموم عند أئمة الأصول هو القول المشتمل على شيئين فصاعدا والتثنية عندهم عموم لما يتصور فيها من معنى الجمع والشمول الذي لا يتصور في الواحد ولا يخفي ما يرد عليه‏.‏

وقال الغزالي هو اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدا واعترض عليه أنه ليس بجامع ولا مانع أما كونه ليس بجامع فلخروج لفظ المعدوم والمستحيل فإنه عام ومدلوله ليس بشيء وأيضا الموصولات مع‏.‏

صلاتها مع جملة العام وليست بلفظ واحد وأما أنه ليس بمانع فلأن مثنى يدخل في الحد مع أنه ليس بعام وكذلك قل جمع لمعهود وليس بعام‏.‏

وقد أجيب عن الأول بأن المعدوم والمستحيل شيء لغة وإن لم يكن شيئا في الاصطلاح وعن الثاني بأن الموصولات هي التي ثبت لها العموم والصلات مبينات لها‏.‏

وقال ابن فورك اشتهر من كلام الفقهاء أن العموم هو اللفظ المستغرق وليس كذلك لأن الاستغراق عموم ما دونه عموم وأقل العموم اثنان‏.‏

وقال ابن الحاجب أن العام هو ما دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا ضربة فقوله ما دل جنس وقوله على مسميات يخرج نحو زيد وقوله باعتبار أمر اشتركت فيه يخرج نحو عشرة فإن العشرة دلت على آحاد لا باعتبار أمر اشتركت فيه لأن آحاد العشرة أجزاء العشرة لا جزئياتها فلا يصدق على واحد واحد أنه عشرة وقوله مطلقا ليخرج المعهود فانه يدل على مسميات باعتبار ما اشتركت فيه مع قيد خصصه بالمعهودين وقوله ضربة أي دفعة واحدة ليخرج نحو رجل مما يدل على مفرداته بدلا لا شمولا ويرد عليه خروج نحو علماء البلد مما يضاف من العمومات إلى ما يخصصه مع أنه عام قصد به الاستغراق‏.‏

ووجه ورود ذلك عليه من حيث اعتباره في التعريف بقيد الإطلاق مع أن العام المضاف قد قيد بما أضيف هو إليه وأجيب بأن الذي اشتركت المسميات فيه هو علماء البلد مطلقا لا العالم وعالم البلد لم يتقيد بقيد وإنما قيد العلماء‏.‏

وورد عليه أيضا أنه قد اعتبر الأفراد في العام وعلماء البلد مركب وأجيب بأن العام إنما هو المضاف من حيث أنه مضاف إليه خارج‏.‏

وأورد عليه الجمع المنكر كرجال فإنه يدل على مسميات وهي آحاده باعتبار ما اشتركت فيه وهو مفهوم رجل مطلقا لعدم العهد وليس بعام عند من يشترط الاستغراق وقد أورد على المعتبرين للاستغراق في حد العام مطلقا مفردا كان أو جمعا أن دلالته على الفرد تضمينه إذ ليس الفرد مدلولا مطابقيا لأن المدلول المطابقي هو مجموع الأفراد المشتركة في المفهوم المعتبر فيه على ما صرحوا به ولا لازما ولا يمكن جعله أي الفرد مما يصدق عليه العام لصيرورته بمنزلة كلمة واحدة في الاصطلاح العلماء وليس مما يصدق على إفراده بدلا بل شمولا ولا يلزم من تعليقه بالكل تعليقه بكل جزئي‏.‏

وأجيب بأنه يلزم من تعليقه بالكل تعليقه بالجزء لزوما لغويا وأن ذلك مما يكفي في الرسوم وفيه نظر وإذا عرفت ما قيل في حد العام علمت أن أحسن الحدود المذكورة هو ما قدمنا عن صاحب المحصول لكن مع زيادة قيد دفعة فالعام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد دفعة‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ ‏[‏هل العموم من عوارض الألفاظ‏]‏

ذهب الجمهور إلى أن العموم من عوارض الألفاظ، فإذا قيل هذا لفظ عام صدق على سبيل الحقيقة‏.‏

وقال القاضي أبو بكر إن العموم والخصوص يرجعان إلى الكلام ثم الكلام الحقيقي هو المعنى القائم دون الصيغ انتهى واختلف الأولون في اتصاف المعاني بالعموم بعد اتفاقهم على أنه حقيقة في الألفاظ فقال بعضهم أنها تتصف به حقيقة كما تتصف به الألفاظ وقال بعضهم أنها تتصف به مجازا‏.‏

وقال بعضهم أنها لا تتصف به لا حقيقة ولا مجازا احتج القائلون بأنه حقيقة فيهما بأن العموم حقيقة في شمول أمر لمتعدد فكما صح في الألفاظ باعتبار شمول لفظ لمعان متعدد بحسب الوضع صح في المعاني باعتبار شمول لفظ لمعان متعددة بحسب لا يتصور شمول أمر معنوي لأمور متعددة كعموم المطر الخصب ونحوهما وكذلك ما يتصوره الإنسان من المعاني الكلية فإنها شاملة لجزئياتها المتعددة الداخلة تحتها ولذلك يقول المنطقيون‏:‏ العام ما لا يمنع تصوره وقوع الشركة فيه والخاص بخلافه‏.‏

وأجيب بأن العام شمول أمر لمتعدد وشمول المطر والخصب ونحوهما ليس كذلك إذا لموجود في مكان غير الموجود في المكان الآخر وإنما هو أفراد من المطر والخصب وأيضا ما ذكروه عن المنطقيين غير صحيح فانهم يطلقون ذلك على الكلي لا على العام‏:‏ ورد بمنع كونه يعتبر في معنى العموم لغة هذا القيد بل يكفي الشمول سواء كان هناك أمر واحد أو لم يكن ومنشأ الخلاف هذا هو ما وقع من الخلاف في معنى العموم فمن قال معناه شمول أمر لمتعدد إلا الموجود الذهني شخصيته منع من إطلاقه حقيقة على المعاني فلا يقال هذا المعنى عام لأن الواحد بالشخص لا شمول ولا يتصف بالشمول لمتعدد إلا الموجود الذهني ووحدته ليست بشخصية فيكون عنده إطلاق العموم على المعاني مجازا لا حقيقة كما صرح به الرازي‏.‏

ومن فهم من اللغة أن الأمر الواحد الذي أضيف إليه الشمول في معنى العموم أعم من الشخصي ومن النوعي أجاز إطلاق العام على المعاني حقيقة وقيل إن محل النزاع إنما هو من صحة تخصيص المعنى العام كما يصح تخصيص اللفظ العام لا في اتصاف المعاني بالعموم وفيه بعد فإن نصوص هؤلاء المختلفين مصرحة بأن خلافهم في اتصاف المعاني بالعموم‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ هل يتصور العموم في الأحكام‏؟‏

حتى يقال حكم قطع السارق عام أنكره القاضي وأثبته الجويني وابن القشيري‏.‏

وقال المازري الحق بناء هذه المسألة على أن الحكم يرجع إلى قول أو إلى وصف يرجع إلى الذات فإن قلنا بالثاني لم يتصور العموم لما تقدم في الأفعال وإن قلنا يرجع إلى قول فقوله سبحانه السارق يشمل كل سارق فنفس القطع فعل والأفعال لا عموم لها‏.‏

قال القاضي أبو عبد الله الصيمري الحنفي في كتابه مسائل الخلاف في أصول الفقه دعوى العموم في الأفعال لا تصح عند أصحابنا ودليلنا أن العموم ما اشتمل على أشياء متغايرة والفعل لا يقع إلا على درجة واحدة وقال الشيخ أبو إسحاق لا يصح العموم إلا في الألفاظ وأما في الأفعال فلا يصح لأنها تقع على صفة واحدة فإن عرفت صفته مثل قول الراوي جمع بين الصلاتين في السفر فهذا مقصور على السفر ومن الثاني قوله في السفر فلا يدري أنه كان طويلا أو قصيرا فيجب التوقف فيه ولا يدعي فيه العموم‏.‏

وقال ابن القشيري أطلق الأصوليون أن العموم والخصوص لا يتصور إلا في الأقوال ولا يدخل في الأفعال أعني في ذواتها فأما في أسمائها فقد يتحقق ولهذا لا نتحقق ادعاء العموم في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال شمس الأئمة السرخسي ذكر أبو بكر الجصاص أن العموم حقيقة في المعاني والأحكام كما هو في الأسماء والألفاظ وهو غلط فإن المذهب عندنا أنه لا يدخل المعاني حقيقة وإن كان يوصف به مجازا‏.‏

قال القاضي عبد الوهاب في الإفادة الجمهور على أنه لا يوصف بالعموم إلا القول فقط وذهب قوم من أهل العراق إلى أنه يصح ادعاؤه في المعاني والأحكام ومرادهم بذلك حمل الكلام على عموم الخطاب وإن لم يكن هناك صيغة كقوله‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ فإنه لما لم يصح تناول التحريم لها عمها بتحريم جميع التصرفات من الأكل والبيع واللمس وسائر أنواع الأنتفاع وإن لم يكن للأحكام ذكر في التحريم بعموم ولا خصوص وكذلك قوله‏:‏ «إنما الأعمال بالنيات» عام في الأجزاء والكمال والذي يقوله أكثر الأصوليين والفقهاء واختصاصه بالقول وإن وصفهم الجور والعدل بأنه عام مجاز انتهى فعرفت بما ذكرناه وقوع الخلاف في اتصاف الأحكام بالعموم كما وقع الخلاف في اتصاف المعاني به‏.‏

المسألة الرابعة‏:‏ ‏[‏في الفرق بين العام والمطلق‏]‏

اعلم أن العام عمومه شمولي وعموم المطلق بدلي، وبهذا يصح الفرق بينهما فمن أطلق على المطلق اسم العموم فهو باعتبار أن موارده غير منحصرة فصح إطلاق اسم العموم عليه باعتبار الحيثية والفرق بين عموم الشمول البدل أن عموم الشمول كلي يحكم فيه على كل فرد وعموم البدل كلي من حيث أنه لا يمنع تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه ولكن لا يحكم فيه على كل فرد فرد بل على فرد شائع في أفراده يتناولها على سبيل البدل ولا يتناول أكثر من واحد منها دفعة‏.‏

قال في المحصول اللفظ الدال على الحقيقة من حيث هي هي من غير أن يكون فيها دلالة على شيء من قيود تلك الحقيقة سلبا كان ذلك القيد أو إيجابا فهو المطلق وأما اللفظ الدال على تلك الحقيقة مع قيد الكثرة فإن كانت الكثرة كثرة معينة بحيث لا تتناول ما يدل عليها فهو اسم العدد وإن لم تكن الكثرة كثرة معينة فهو العام وبهذا ظهر خطأ من قال المطلق هو الدال على واحد لا بعينه فإن كونه واحدا وغير معين قيدان زائدان على الماهية انتهى فيجعل في كلامه هذا معنى المطلق عن التقييد فلا يصدق إلا على الحقيقة من حيث هي هي وهو غير ما عليه الاصطلاح عند أهل هذا الفن وغيرهم كما عرفت مما قدمنا‏.‏

وقد تعرض بعض أهل العلم للفرق بين العموم والعام فقال العام هو اللفظ المتناول والعموم تناول اللفظ لما يصلح له فالعموم مصدر والعام فاعل مشتق من هو المصدر وهما متغايران لأن المصدر والفعل غير الفاعل‏.‏

قال الزركشي في البحر ومن هذا يظهر الإنكار على عبد الجبار وابن برهان وغيرهما في قولهم العموم اللفظ المستغرق فإن قيل أرادوا بالمصدر اسم الفاعل قلنا استعماله فيه مجاز ولا ضرورة لارتكابه مع إمكان الحقيقة وفرق القرافي بين الأعم والعام بأن الأعم إنما يستعمل في المعنى والعام في اللفظ فإذا قيل هذا أعم تبادر الذهن للمعنى وإذا قيل هذا عام تبادر الذهن للفظ‏.‏

المسألة الخامسة‏:‏ ‏[‏صيغة العموم‏]‏

ذهب الجمهور إلى العموم له صيغة موضوعة له حقيقة، وهي أسماء الشرط والاستفهام والموصلات والجموع المعرفة تعريف الجنس والمضافة واسم الجنس والنكرة والمنفية والمفردة والمحلي باللام ولفظ كل وجميع ونحوها وسنذكر إن شاء الله الاستدلال على عموم هذه الصيغ ونحوه ذكرا مفصلا قالوا لأن الحاجة ماسة إلى الألفاظ العامة لتعذر جمع الآحاد على المتكلم فوجب أن يكون لها ألفاظ موضوعة حقيقة لأن الغرض من وضع اللغة الإعلام والإفهام‏.‏

واحتجوا أيضا بأن السيد إذا قال لعبده لا تضرب أحدا فهم منه العموم حتى لو ضرب واحدا عد مخالفا والتبادر دليل الحقيقة والنكرة في النفي للعموم حقيقة فللعموم صيغة وأيضا لم يزل العلماء يستدلون بمثل ‏{‏والسارق والسارقة فاقطعوا‏}‏ و‏{‏الزانية والزاني فاجلدوا‏}‏ وقد كان الصحابة يحتجون عند حدوث الحادثة عند الصيغ المذكورة على العموم ومنه ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الحمر الأهلية فقال‏:‏ «لم ينزل علي في شأنها إلا هذه الآية الجامعة‏:‏ ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره‏}‏» وما ثابت أيضا من احتجاج عمرو بن العاص لما أنكر عليه ترك الغسل من الجنابة والعدول إلى التيمم مع شدة البرد فقال سمعت الله يقول ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ فقرر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم يعد العاد من مثل هذه المواد وما أجيب به عن ذلك بأنه إنما فهم بالقرائن جواب ساقط لا يلتفت إليه ولا يعول عليه‏.‏

وقال محمد ابن المنتاب من المالكية ومحمد بن شجاع البلخي من الحنفبة أنه ليس للعموم صيغة تخصه وأن ما ذكروه من الصيغ موضوع في الخصوص وهو أقل الجمع أما اثنان أو ثلاثة على الخلاف في أقل الجمع ولا يقتضي العموم إلا بقرينة‏.‏

قال القاضي في التقريب والإمام في البرهان يزعمون أن الصيغ الموضوعة للجمع نصوص في الجمع محتملات فيما عداه إذا لم تثبت قرينة تقتضي تعديها على أقل المراتب انتهى ولا يخفاك أن قولهم موضوع للخصوص مجرد دعوى ليس عليها دليل والحجة قائمة عليهم لغة وشرعا وعرفا وكل من يفهم لغة العرب واستعمالات الشرع لا يخفي عليه هذا‏.‏

وقال جماعة من المرجئة أن شيئا من الصيغ لا يقتضي بذاته ولا مع القرائن بل إنما يكون العموم عند إرادة المتكلم ونسب هذا إلى أبي الحسن الأشعري‏.‏

قال في البرهان نقل مصنفوا المقامات عن أبي الحسن الأشعري والواقفية أنهم لا يثبتون لمعنى العموم صيغة لفظية وهذا النقل على الإطلاق زلل فإن أحدا لا ينكر إمكان التعبير عن معنى الجمع بترديد ألفاظ تشعر به كقول القائل رأيت القوم واحدا واحدا لم يفتن منهم أحد وإنما كرر هذه الألفاظ لقطع توهم من يحسبه خصوصا إلى غير ذلك وإنما أنكر الواقفية لفظة واحدة مشعرة بمعنى الجمع انتهى ولا يخفاك أن هذا المذهب مدفوع بمثل ما دفع به الذي قبله وبزيادة على ذلك وهو أن إهمال القرائن المقتضية لكونه عاما شاملا عناد ومكابرة‏.‏

وقال قوم بالوقف ونقله القاضي في التقريب عن أبي الحسن ومتبعيه أن الصيغة وإن تقيدت بالقرائن فإنها لا تشعر بالجمع بل تبقى على التردد هذا وإن صح النقل فيه فهو مخصوص عندي بالتوابع المؤكدة لمعنى الجمع كقول القائل رأيت القوم أجمعين أكتعين أبصعين فلا يظن بذي عقل أن يتوقف فيها انتهى وقد اختلف الواقفية في محل الوقف على تسعة أقوال‏:‏

الأول‏:‏ وهو المشهور من مذهب أئمتهم القول به على الإطلاق من غير تفصيل‏.‏

الثاني‏:‏ أن الوقف إنما هو في الوعد والوعيد دون الأمر والنهي حكاه أبو بكر الرازي عن الكرخي قال وربما ظن مذهب أبي حنيفة لأنه كان لا يقطع بوعيد أهل الكبائر من المسلمين ويجوز أن يغفر الله لهم في الآخرة‏.‏

الثالث‏:‏ القول بصيغ العموم في الوعد والوعيد والتوقف فيما عدا ذلك وهو قول جمهور المرجئة‏.‏

الرابع‏:‏ الوقف في الوعيد بالنسبة إلى عصاة هذه الأمة دون غيرها‏.‏

الخامس‏:‏ الوقف في الوعيد دون الوعد قال القاضي وفرقوا بينهما بما يليق بالشطح والترهات دون الحقائق‏.‏

السادس‏:‏ الفرق بين أن لا يسمع قبل اتصالها به شيئا من أدلة السمع وكانت وعدا ووعيدا فعلم أن المراد بها للعموم وإن كان قد سمع قبل اتصالها به أدلة الشرع وعلم انقسامها إلى العموم والخصوص فلا يعلم حينئذ العموم في الأخبار التي اتصلت به حكاه القاضي في مختصر التقريب‏.‏

السابع‏:‏ الوقف في حق من لم يسمع خطاب الشرع عنه صلى الله عليه وسلم وأما من سمع منه وعرف تصرفاته فلا وقف فيه كذا حكاه المازري‏.‏

الثامن‏:‏ التفصيل بين أن يتقيد بضرب من التأكيد فيكون للعموم دون ما إذا لم يتقيد‏.‏

التاسع‏:‏ إن لفظة المؤمن والكافر حيثما وقعت في الشرع أفادت العموم دون غيرها حكاه المازري عن بعض المتأخرين وقد علمت اندفاع مذهب الوقف على الإطلاق بعدم نوازن الأدلة التي تمسك بها المختلفون في العموم بل ليس بيد غير أهل المذهب الأول شيء مما يصح إطلاق اسم الدليل عليه فلا وجه للتوقف ولا مقتضى له والحاصل أن كون المذهب الأول هو الحق الذي لا سترة به ولا شبهة فيه ظاهر لكل من يفهم فهما صحيحا ويعقل الحجة ويعرف مقدارها في نفسها ويعرف مقدار ما يخالفها‏.‏

المسألة السادسة‏:‏ في الاستدلال على أن كل صيغة من تلك الصيغ للعموم

وفيه فروع‏:‏

الفرع الأول‏:‏ في من وما وأين ومتى للاستفهام

فهذه الصيغ إما أن تكون للعموم فقط أو للخصوص أو لهما على سبيل الاشتراك أو لا لواحد منهما والكل باطل إلا الأول أما أنه لا يجوز أن يقال أنها موضوعة للخصوص فقط فلأنه لو كان كذلك لما حسن من المجيب أن يجيب بذكر كل العقلاء لأن الجواب يجب أن يكون مطابقا للسؤال لكن لا نزاع في حسن ذلك وأما أنه لا يجوز أن يقال بالاشتراك فلأنه لو كان كذلك لما حسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثلا إذا قال من عندك فلابد أن تقول سألتني عن الرجال أو النساء فإذا قال عن الرجال فلابد أن تقول سألتني عن العرب أو العجم فإذا قال عن العرب فلابد أن تقول عن ربيعة أو مضر وهكذا إلى أن تأتي على جميع الأقسام الممكنة وذلك لأن اللفظ أما أن يقال أنه مشترك بين الاستغراق وبين مرتبة معينة في الخصوص أو بين الاستغراق وبين جميع المراتب الممكنة في الخصوص والأول باطل لأن أحدا لم يقل به والثاني يقتضي أن لا يحس من المجيب ذكر الجواب إلا بعد الاستفهام عن كل تلك الأقسام لأن الجواب لابد أن يكون مطابقا للسؤال فإذا كان السؤال محتملا لأمور كثيرة فلو أجاب قبل أن يعرف ما عنه وقع السؤال لاحتمل أن لا يكون الجواب مطابقا للسؤال وذلك غير جائز فثبت أن لو صح الاشتراك لوجبت هذه الاستفهامات لكنها غير واجبة أما أولا فلأنه لا عام إلا وتحته عام آخر وإذا كان كذلك كانت التقسيمات الممكنة غير متناهية والسؤال عنها على سبيل التفصيل محال وأما ثانيا فإنا نعلم بالضرورة من عادة أهل اللسان أنهم يستقبحون مثل هذه الاستفهامات وأما أنه لا يجوز أن تكون هذه الصيغة غير موضوعة للعموم والخصوص فمتفق عليه فبطلت هذه الثلاثة ولم يبق إلا القسم الأول‏.‏

الفرع الثاني‏:‏ في صيغة ما ومن في المجازاة

فإنها للعموم ويدل عليه أن قول القائل من دخل داري فأكرمه لو كان مشتركا بين العموم والخصوص لما حسن من المخاطب أن يجري على موجب الأمر إلا عند الاستفهام عن جميع الأقسام لكنه قد حسن ذلك بدون استفهام فدل على عدم الاشتراك كما سبق في الفرع الذي قبل هذا وأيضا لو قال من دخل داري فأكرمه حسن منه استثناء كل واحد من العقلاء من هذا الكلام وحسن ذلك معلوم من عادة أهل اللغة ضرورة والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك أنه لا نزاع أن المستثنى من الجنس يصح دخوله تحت المستثنى منه فأما أن لا يعتبر مع الصحة الوجوب أو يعتبر والأول باطل وإلا لم يبق فرق بين الاستثناء من الجمع المنكر كقولك جاءني فقهاء إلا زيدا وبين الاستثناء من الجمع المعرف كقولك جاءني الفقهاء إلا زيدا والفرق بينهما معلوم بالضرورة من عادة العرب فعلمنا أن الاستثناء من الجمع المعرف يقتضي إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ وهو المطلوب‏.‏

الفرع الثالث‏:‏ في أن صيغة كل وجميع يفيدان الاستغراق

ويدل على ذلك أنك إذا قلت جاءني كل عالم في البلد أو جميع علماء البلد فإنه يناقضه قولك ما جاءني كل عالم في البلد وما جاءني جميع علماء البلد ولذلك يستعمل كل واحد من هذين الكلامين في تكذيب الآخر والتناقض إلا إذا أفاد لكل الاستغراق لأن النفي عن الكل لا يناقض الثبوت في البعض وأيضا صيغة الكل والجميع مقابلة لصيغة البعض ولولا أن صيغتهما غير محتملة للبعض لم تكن مقابلة وأيضا إذا قال القائل ضربت كل من في الدار أو ضربت جميع من في الدار سبق إلى الفهم الاستغراق ولو كانت صيغة الكل أو الجمع مشتركة بين الكل والبعض لما كان كذلك لأن اللفظ المشترك لما كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية امتنع أن تكون مبادرة الفهم إلى أحدهما أقوى منها إلى الآخر وإذا قال السيد لعبده اضرب كل من دخل داري أو جميع من دخل داري فضرب كل واحد ممن دخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه بضرب جميعهم وله أن يعترض عليه إذا ترك البعض منهم ومثله لو قال رجل لرجل أعتق كل عبيدي أو جميع عبيدي ثم مات لم يحصل الامتثال إلا بعتق كل عبد له ولا يحصل امتثاله بعتق البعض وأيضا لا يشك عارف بلغة العرب أو بين قول القائل جاءني رجال وجاءني كل الرجال وجميع الرجال فرقا ظاهرا وهو دلالة الثاني على الاستغراق دون الأول وإلا لم يكن بينهما فرق ومعلوم أن أهل اللغة إذا أرادوا التعبير عن الاستغراق جاءوا بلفظ كل وجميع وما يفيد مقادهما ولو لم يكونا للاستغراق لكان استعمالهم لهما عند إرادتهم للاستغراق عبثا‏.‏

قال القاضي عبد الوهاب‏:‏ ليس بعد كل في كلام العرب كلمة أعم منها ولا فرق بين أن تقع مبتدأ بها أو تابعة تقول كل امرأة أتزوجها فهي طالق وجاءني القوم كلهم فيفيد أن المؤكد به عام وهي تشمل العقلاء وغيرهم والمذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع فلذلك كانت أقوى صيغ العموم وتكون في الجميع بلفظ واحد تقول كل النساء وكل القوم وكل رجل وكل امرأة قال سيبويه معنى قولهم كل رجل كل رجال فأقاموا رجلا مقام رجال لأن رجلا شائع في الجنس والرجال ولا يؤكد بها المثنى استغناء عنه بكل ولا يؤكد بها إلا ذو أجزاء ولا يقال جاء زيد كله انتهى‏.‏

وقد ذكر علماء النحو والبيان الفرق بين أن يتقدم النفي على كل وبين أن تتقدم هي عليه فإذا تقدمت على حرف النفي نحو كل القوم لم يقم أفادت التنصيص على انتفاء قيام كل فرد فرد وإن تقدم النفي عليها مثل لم يقم كل القوم لم تدل إلا على نفي المجموع وذلك بصدق بانتفاء القيام عن بعضهم ويسمى الأول عموم السلب والثاني سلب العموم من جهة أن الأول يحكم فيه بالسلب عن كل فرد والثاني لم يفد العموم في حق كل أحد إنما أفاد نفي الحكم عن بعضهم‏.‏

قال الفراء وهذا شيء اختصت به كل من بين سائر صيغ العموم قال وهذه القاعدة متفق عليها عند أرباب البيان وأصلها قوله صلى الله عليه وسلم كل ذلك لم يكن لما قال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت انتهى‏.‏

وإذا عرفت هذا في معنى كل فقد تقرر أن لفظ جميع هو بمعنى كل الإفرادي وهو معنى قولهم أنها للعموم الإحاطي لا وقيل يفترقان من جهة كون دلالة على كل فرد بطريق النصوصية بخلاف جميع‏.‏

وفرقت الحنفية بينهما بأن كل تعم الأشياء على سبيل الإنفراد وجميع تعمها على سبيل الاجتماع وقد روى أن الزجاج حكى هذا الفرق عن المبرد‏.‏

الفرع الرابع‏:‏ لفظ أي

فإنها من جملة صيغ العموم إذا كانت شريطة واستفهامية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أيكم يأتيني بعرشها‏}‏ وقد ذكرها في صيغ العموم الأستاذ أبو منصور البغدادي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين الجويني وابن الصباغ وسليم الرازي والقاضيان أبو بكر وعبد الوهاب والرازي والآمدي والصفي والهندي وغيرهم قالوا وتصلح للعاقل وغيره قال القاضي عبد الوهاب في التخليص إلا أنها تتناول على جهة الانفراد دون الاستغراق ولهذا إذا قلت أي الرجلين عندك لم يجب إلا بذكر واحد قال ابن السمعاني في القواطع وأما كلمة أي فقيل كالنكرة لأنها تصحبها لفظا ومعنى تقول أي رجل فعل هذا وأي دار دخل قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أيكم يأتيني بعرشها‏}‏ وهي في المعنى نكرة لأن المراد بها واحد منهم انتهى‏.‏

قال الزركشي في البحر وحاصل كلامهم أنها للاستغراق البدلي والشمولي لكن ظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق أنها للعموم والشمولي وتوسع القرافي فعدى عمومها إلى الموصولة والموصوفة في النداء ومنهم من لم يعده كالغزالي وابن القشيري لأجل النحاة أنها بمعنى بعض إذا أضيفت إلى معرفة وقول الفقهاء أي وقت دخلت الدار فأنت طالق لا يتكرر الطلاق بتكرار الدخول كما في كلما والحق أن عدم التكرار لا ينافي العموم وكون مدلولها أحد الشيئين قدر مشترك بينهما وبين بقية الصيغ في الاستفهام‏.‏

وقال صاحب اللباب من الحنفية وأبو زيد في التقويم كلمة أي نكرة لا تقتضي العموم بنفسها إلا بقرينة ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏أيكم يأتيني بعرشها‏}‏ ولم يقل يأتوني لو قال لغيره أي عبيدي ضربته فهو حر فضربهم لم يعتق إلا واحد فإن وصفها بصفة عامة كانت للعموم بقوله أي عبيدي ضربك فهو حر فضربوه جميعا عتقوا لعموم فعل الضرب وصرح إلكيا الطبري بأنها ليست من صيغ العموم فقال وأما أي فهي اسم مفرد يتناول جزءا من الجملة المضافة قال الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أيكم يأتيني بعرشها‏}‏، فجاء به واحد وقال‏:‏ ‏{‏أيكم أحسن عملا‏}‏‏.‏

وصرح القاضي حسين والشاشي أنه لا فرق بين الصورتين المذكورتين وأن العبيد يعتقون جميعا فيهما وجزم ابن الهمام في التحرير بأنها في الشرط والاستفهام ككل مع النكرة وكالبعض مع المعرفة وهو المناسب لما جوزه النحاة فيها فإن الفرق بين قول القائل أي رجل تضرب اضرب وبين أي الرجل تضرب اضرب ظاهر لا يخفى‏.‏

الفرع الخامس‏:‏ النكرة في النفي

فإنها تعم وذلك لوجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن الأنسان إذا قال أكلت اليوم شيئا فمن أراد تكذيبه قال ما أكلت اليوم شيئا فذكرهم هذا النفي عن تكذيب ذلك الإثبات يدل على اتفاقهم على كونه مناقضا له فلو كان قوله ما أكلت اليوم شيئا لا يقتضي العموم لما تناقضا لأن السلب الجزئي لا يناقض الإيجاب الجزئي‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أنها لو لم تكن النكرة في النفي للعموم لما كان قولنا لا إله إلا الله نفيا لجميع الإلهة سوى الله سبحانه وتعالى فتقرر بهذا أن النكرة المنفية بما أو لن أو لم أو ليس أو لا مفيدة للعموم وسواء دخل حرف النفي على فعل نحو ما رأيت رجلا أو على الاسم نحو لا رجل في الدار ونحو ما أحد قائما وما قام أحد‏.‏

وقال القاضي عبد الوهاب في الإفادة قد فرق أهل اللغة بين النفي في قوله ما جاءني أحد وما جاءني من أحد وبين دخوله على النكرة من أسماء الجنس فيما جاءني رجل وما جاءني من رجل فرأوا تساوي اللفظين في الأول وأن من زائدة فيه وافتراق المعنى في الثاني لأن قوله ما جاءني رجل يصلح أن يراد به الكل وأن يراد به رجل واحد فإذا دخلت من أخلصت النفي للاستغراق‏.‏

وقال إمام الحرمين الجويني هي للعموم ظاهرا عند تقدير من فإن دخلت من كانت نصا والمشهور في علم النحو الخلاف بين سيبويه والمبرد فسيبويه قال إن العموم مستفاد من النفي قبل دخول من والمبرد قال أنه مستفاد من لفظ من والحق ما قاله سيبويه وكون من تفيد النصوصية بدخولها لا ينافي الظهور الكائن قبل دخولها قال أبو حيان مذهب سيبويه أن ما جاءني من أحد وما جاءني من رجل من في الموضعين لتأكيد استغراق الجنس وهذا هو الصحيح انتهى ولو لم تكن من صيغ العموم قبل دخول من لما كان نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يعزب عنه مثقال ذرة‏}‏، ‏{‏لا تجزي نفس عن نفس شيئا‏}‏ مقتضيا للعموم‏.‏

وقد فرق بعضهم بين حروف النفي الداخلة على النكرة بفرق لا طائل تحته فلا نطول بذكره واعلم أن حكم النكرة الواقعة في سياق النهي حكم النكرة الواقعة في سياق النفي وما خرج عن ذلك من الصور فهو لنقل العرف له عن الوضع اللغوي‏.‏

الفرع السادس‏:‏ لفظ معشر ومعاشر وعامة وكافة وقاطبة وسائر من صيغ العموم

في مثل قوله‏:‏ ‏{‏يا معشر الجن والإنس‏}‏ و«نحن معاشر الأنبياء لا نورث» و«جاءني القوم عامة» ‏{‏وقاتلوا المشركين كافة‏}‏ و«ارتدت العرب قاطبة» وجاءني سائر الناس إن كانت مأخوذة من سور البلد وهو المحيط بها كما قاله الجوهري وإن كانت من أسأر بمعنى أبقى فلا تعم وقد حكى الأزهري الاتفاق عن أنها مأخوذة من المعنى الثاني وغلطوا الجوهري‏.‏

وأجيب عن الأزهري بأنه قد وافق الجوهري على ذلك السيرافي في شرح كتاب سيبويه وأبو منصور الجواليقي في شرح أدب الكاتب وابن بري وغيرهم والظاهر أنه للعموم وإن كانت بمعنى الباقي لأن المراد بها شمول ما دخلت عليه سواء كانت بمعنى الجميع أو الباقي كما تقول اللهم اغفر لي ولسائر المسلمين وخالف في ذلك القرافي والقاضي عبد الوهاب‏.‏

الفرع السابع‏:‏ الألف واللام

الحرفية لا الإسمية تفيد العموم إذا دخلت على الجمع سواء كان سالما أو مكسرا وسواء كان من جموع القلة أو الكثرة وكذا إذا دخلت على اسم الجمع كركب وصحب وقوم ورهط وكذا إذا دخلت على اسم الجنس وقد اختلف في اقتضائها للعموم إذا دخلت على هذه المذكورات على مذاهب ثلاثة‏.‏

الأول‏:‏ أنه إذا كان هناك معهود حمل على العهد فإن لم يكن حملت على الاستغراق واليه ذهب جمهور أهل العلم‏.‏

الثاني‏:‏ انها تحمل على الاستغراق إلا ان يقوم دليل على العهد‏.‏

الثالث‏:‏ انها تحمل عند فقد العهد على الجنس من غير استحقاق وحكاه صاحب الميزان عن ابي علي الفارسي وابي هاشم والراجح المذهب الأول وقال ابن الصباغ هو اجماع الصحابة قال في المحصول مستدلا على هذا المذهب لنا وجوه‏:‏

الأول‏:‏ ان الأنصار لما طلبوا الامامة احتج عليهم ابو بكر بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الأئمة من قريش» والأنصار سلموا تلك الحجة ولو لم يدل الجمع المعرف بلام الجنس على خص هذه الصورة وامثالها عن الموضوع اللغوي على أنه قد حكى الروياني في البحر عن ابن عباس واحمد بن حنبل انها تطلق الاربع جميعا بخلاف ما عدا هذه الصورة وامثالها فانه يحمل على العموم كما لو قال مالي صدقة ومن هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هو الطهور ماؤه والحل ميتته»‏.‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

الفرع الثامن‏:‏ تعريف الإضافة

وهو من مقتضيات العموم كالألف واللام من غير فرق بين كون المضاف جمعا نحو عبيد زيد أو اسم جمع نحو جاءني ركب المدينة أو اسم جنس نحو‏:‏ ‏{‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏، و«منعت العراق درهمها ودينارها ومنعت الشام قفيزها وصاعها»‏.‏

وقد صرح الرازي أن المفرد المضاف يعم من اختياره بأن المعرف بالألف واللام لا يعم قال الصفي الهندي في النهاية وكون المفرد المضاف للعموم وإن لم يكن منصوصا لكن نفيه التسوية بين الإضافة ولام التعريف يقتضي العموم والحق أن عموم الإضافة أقوى ولهذا لو حلف لا يشرب الماء حنث بشرب القليل منه لعدم تناهي إفراده ولو حلف لا يشرب ماء البحر لا يحنث إلا بكله انتهى وفي هذا الفرق نظر ولا ينافي إفادة إضافة اسم الجنس للعموم ما وقع من الخلاف فيمن قال زوجتي طالق وله أربع زوجات فإن من قال أنها لا تطلق إلا واحدة استدل بأن العرب قد لسلب عموم التسوية فعلى الأول يمتنع ثبوت شيء من إفرادها وعلى الثاني لا يمتنع ثبوت البعض وهذا يقتضي ترجيح المذهب الثاني لأن حرب النفي سابق وهو يفيد سلب العموم لا عموم السلب وأما الآية التي وقع المثال بها فقد صرح فبها بما يدل على أن النفي باعتبار بعض الأمور وذلك قوله‏:‏ ‏{‏أصحاب الجنة هم الفائزون‏}‏ فإن يفيد أنهما لا يستويان في الفوز بالجنة وقد رجح الصفي الهندي أن نفي الاستواء من باب المجمل من المتواطئ لا من باب العام وتقدمه إلى ترجيح الإجمال إلكيا الطبري‏.‏

الفرع التاسع‏:‏ الاسماء الموصولة

كالذي والتي والذين واللات وذو الطائية وجمعها وقد صرح القرافي والقاضي عبد الوهاب بانها من صيغ العموم وقال ابن السمعاني جميع الاسماء المبهمة تقتضي العموم وقال اصحاب الاشعري انها تجري في بابها مجرى اسم منكور كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك‏}‏ ‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى‏}‏ ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما‏}‏ وما خرج من ذلك فلقرينة تخصصه عن موضوعه اللغوي‏.‏

الفرع العاشر‏:‏ نفي المساواة بين الشيئين

كقوله‏:‏ ‏{‏لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة‏}‏ فذهب جمهور الشافعية وطوائف من الاصوليين والفقهاء إلى أنه يقتضي العموم وذهبت الحنفية والمعتزلة والغزالي والرازي إلى أنه ليس بعام استدل الأولون بانه نكرة في سياق النفي لأن الجملة نكرة باتفاق النحاة وكذلك توصف بها النكرات دون المعارف واستدل الرازي في المحصول لللاخرين بوجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن نفي الاستواء مطلقا أي في الجملة أعم من نفي الاستواء من كل الوجوه أو من بعضها والدال على القدر المشترك بين الامرين لا اشعار فيه بهما فلا يلزم من نفيه نفيهما‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أما أن يكفي في إطلاق لفظ المساواة الاستواء من بعض الوجوه أو لابد فيه من الاستواء من كل الوجوه والأول باطل وإلا لوجوب إطلاق لفظ المساواة على جميع الأشياء لأن كل شيئين لابد أن يستويا في بعض الأمور من كونهما معلومين وموجودين ومذكورين وفي سلب ما عداهما عنهما ومتى صدق عليه المساوي وجب أن يكذب عليه غير المساوي لأنهما في العرف كالمتناقضين فإن من قال هذا يساوي ذاك فمن أراد تكذيبه قال لا يساويه والمناقضان لا يصدقان معا فوجب أن لا يصدق على شيئين ألبتة لأنهما متساويان وغير متساويين ولما كان ذلك باطلا علمنا أنه يعتبر في المساواة المساواة من كل الوجوه وحينئذ يكفي في نفي المساواة الاستواء من بعض الوجوه لأن نقيض الكلي هو الجزئي فإذا قلنا لا يستويان لا يفيد نفي الاستواء من جميع الوجوه وأجيب عن الدليل الأول بأن عدم إشعار الأعم بالأخص إنما هو في طريق الإثبات لا في طريق النفي فإن الأعم يستلزم نفي الأخص ولولا ذلك لجاز مثله في كل نفي فلا يعلم نفي أبدا إذ يقال في لا رجل رجل أعم من الرجل بصيغة العموم فلا يشعر به وهو خلاف ما ثبت بالدليل وأجيب عن الدليل الثاني بأنه إذا قيل لا مساواة فإنما يراد نفي مساواة يصح انتفاؤه وإن كان ظاهرا في العموم وهو من قبيل ما يخصصه العقل نحو‏:‏ ‏{‏الله خالق كل شيء‏}‏ أي خالق كل شيء يخلق والحاصل أن مرجع الخلاف إلى أن المساواة في الإثبات هل مدلولها لغة المشاركة في كل الوجوه حتى يكون اللفظ شاملا أو مدلولها المساواة في بعض الوجوه حتى يصدق بأي وجه فإن قلنا بالأول لم يكن النفي للعموم لأن نقيض الكلي الموجب جزئي سالب وإن قلنا بالثاني كان للعموم لأن نقيض الجزئي الموجب كلي سالب وخلاصة هذا أن صيغة الاستواء أما لعموم سلب التسوية أو الاستغراق لما صحت تلك الدلالة لأن قوله الأئمة من قريش لو كان معناه بعض الأئمة من قريش لوجب أن لا ينافي وجود إمام من قوم آخرين‏.‏

قال الوجه الثاني‏:‏ إن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي الاستغراق فوجب أن يفيد في أصله الاستغراق أما أنه يؤكد فكقوله‏:‏ ‏{‏فسجد الملائكة كلهم أجمعون‏}‏ وأما أنه بعد التأكيد يقتضي الاستغراق فبالإجماع وأما أنه بعد التأكيد أن الألف واللام إذا دخلا في الاسم صار معرفة كما نقل عن أهل اللغة فيجب صرفه إلى ما به تحصل المعرفة وإنما تحصل المعرفة عند إطلاقه بالصرف إلى الكل معلوم للمخاطب فأما الصرف إلى ما دون فإنه لا يفيد المعرفة لأن بعض المجموع ليس أولى من بعض فكان مجهولا‏.‏

قال الوجه الرابع‏:‏ أنه يصح استثناء أي واحد كان منه وذلك يفيد العموم على ما تقدم وممن حكى إجماع الصحابة على إفادة هذا التعريف للعموم ابن الهمام في التحرير وحكى ايضا إجماع أهل اللغة على صحة الاستثناء قال الزركشي في البحر وظاهر كلام الأصوليين أنها تحمل على الاستغراق لعموم فائدته ولدلالة اللفظ عليه ونقله ابن القشيري عن المعظم وصاحب الميزان عن أبي بكر السراج النحوي فقال إذا تعارض جهة العهد والجنس يصرف إلى الجنس وهذا هو الذي أورده الماوردي والروياني في أول كتاب البيع قالا لأن الجنس يدخل تحت العهد والعهد لا يدخل تحت الجنس‏.‏

وروى عن إمام الحرمين الجويني أنه مجمل لأن عمومه ليس من صيغته بل من قرينة نفي المعهود فتعين الجنس لأنه لا يخرج عنها وهو قول ابن القشيري قال إلكيا الهراس أنه الصحيح لأن الألف واللام للتعريف وليست إحدى جهتي التعريف بأولى من الثانية فيكتسب اللفظ جهة الإجمال لاستوائه بالنسبة إليهما انتهى والكلام في هذا البحث يطول جدا فقد تكلم فيه أهل الأصول وأهل النحو وأهل البيان بما هو معروف وليس المراد هنا إلا بيان ما هو الحق وتعيين الراجح من المرجوح ومن أمعن النظر وجود التأمل علم أن الحق الحمل على الاستغراق إلا أن يوجد هناك ما يقتضي العهد وهو ظاهر في تعريف الجنس وأما تعريف الجمع مطلقا واسم الجمع فكذلك أيضا لأن التعريف يهدم الجمعية ويصيرها للجنس وهذا يدفع ما قيل من أن استغراق المفرد أشمل‏.‏

الفرع الحادي عشر‏:‏ إذا وقع الفعل في سياق النفي أو الشرط

فإن كان غير متعد فهل يكون النفي له نفيا لمصدره وهو نكرة فيقتضي العموم أم لا حكى القرافي عن الشافعية والمالكية أنه يعم وقال إن القاضي عبد الوهاب في الإفادة نص على ذلك وإن كان متعديا ولم يصرح بمفعوله نحو لا أكلت وإن أكلت ولا كان له دلالة على مفعول معين فذهبت الشافعية والمالكية وأبو يوسف وغيرهم إلى أنه يعم‏.‏

وقال أبو حنيفة لا يعم واختاره القرطبي من المالكية والرازي من الشافعية وجعله القرطبي من باب الأفعال اللازمة نحو يعطي ويمنع فلا يدل على مفعول لا بالخصوص ولا بالعموم قال الاصفهاني لا فرق بين المتعدي واللازم والخلاف فيهما على السواء‏.‏

وظاهر كلام إمام الحرمين الجويني والغزالي والآمدي والصفي الهندي أن الخلاف إنما هو في الفعل المتعدي إذا وقع في سياق النفي أو الشرط هل يعم مفاعيله أم لا في الفعل اللازم فإنه لا يعم والذي ينبغي التعويل عليه أنه لا فرق بينهما في نفس مصدريهما فيكون النفي لهما نفيا لهما ولا فرق بينهما وبين وقوع النكرة في سياق النفي وأما فيما عدا المصدر فالفعل المتعدي لابد له من مفعول به فحذفه مشعر بالتعميم كما تقرر في علم المعاني‏.‏

وذكر القرطبي أن القائلين بتعميمه قالوا لا يدل على جميع ما يمكن أن يكون مفعولا على جهة الجمع بل على جهة البدل قال وهؤلاء أخذوا الماهية مقيدة ولا ينبغي لأبي حنيفة أن ينازع في ذلك‏.‏

الفرع الثاني عشر‏:‏ الأمر للجميع بصيغة الجمع

كقوله‏:‏ ‏{‏أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏ عمومه وخصوصه يكون باعتبار ما يرجع إليه أن السيد إذا أشار إلى جماعة من عبيده وقال قوموا فمن تخلف عن القيام منهم استحق الذم وذلك يدل على أن اللفظ للشمول فلا يجوز أن يضاف ذلك إلى القرينة‏.‏

قال في المحصول لأن تلك القرينة أن كانت من لوازم هذه الصيغة فقد حصل مرادنا وإلا فلنفرض هذه الصيغة مجردة عنها ويعود الكلام انتهى وممن صرح أن عموم صيغة الجمع في الأمر وخصوصها يكون باعتبار مرجعها الإمام الرازي في المحصول والصفي الهندي في النهاية وذكر القاضي عبد الجبار عن الشيخ أبي عبد الله البصري أن قول القائل افعلوا يحمل على الاستغراق وقال أبو الحسين البصري الأولى أن يصرف إلى المخاطبين سواء كانوا ثلاثة أو أكثر وأطلق سليم الرازي في التقريب أن المطلقات لا عموم فيها‏.‏

فائدة‏:‏

قال إمام الحرمين الجويني وابن القشيري أن أعلى صيغ العموم أسماء الشرط والنكرة في النفي وادعيا القطع بوضع ذلك للعموم وصرح الرازي في المحصول أن أعلاها أسماء الشرط والاستفهام ثم النكرة المنفية لدلالتها بالقرينة لا بالوضع وعكس الصفي الهندي فقدم النكرة المنفية على الكل‏.‏

وقال ابن السمعاني أبين وجوه العموم وألفاظ الجمع ثم اسم الجنس المعرف باللام وظاهره أن الإضافة دون ذلك في المرتبة وعكس الإمام الرازي في تفسيره فقال الإضافة أدل على العموم من الألف واللام والنكرة المنفية أدل على العموم منها إذا كانت في سياق النفي والتي بمن أدل من المجردة عنها قال أبو علي الفارسي أن مجيء أسماء الأجناس معرفة بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة‏.‏

وقال إلكيا الطبري في التلويح ألفاظ العموم أربعة‏:‏ أحدها عام بصيغة ومعناه كالرجال والنساء والثاني عام لا بصيغته كالرهط ونحوه من أسماء الأجناس قال وهذا لا خلاف فيه والثالث ألفاظ مبهمة نحو ما ومن وهذا يعم كل أحد والرابع النكرة في سياق النفي نحو لم أر رجلا وذلك يعم لضرورة صحة الكلام وتحقيق غرض المتكلم من الإفهام إلا أنه لا يتناول الجميع بصيغته والعموم فيه من القرينة فلهذا لم يختلفوا فيه وقد قدمنا في الفرع الثالث ما يفيد أن لفظ كل أقوى صيغ العموم‏.‏

المسألة السابعة‏:‏ ‏[‏حكم جموع القلة والكثرة المنكرة‏]‏

قال جمهور أهل الأصول أن جمع القلة المنكر ليس بعام؛ لظهوره في العشرة فما دونها وأما جمع الكثرة المنكر فذهب جمهور المحققين إلى أنه ليس بعام وخالف في ذلك الجبائي وبعض الحنفية وابن حزم وحكاه ابن برهان عن المعتزلة واختاره البزدوي وابن الساعات وهو أحد وجهي الشافعية كما حكاه الشيخ أبو حامد الإسفراييني والشيخ أبو إسحاق الشيرازي احتج الجمهور بأن الجمع المنكر لا يتبادر منه عند إطلاقه عن قرينة العموم نحو رأيت رجالا استغراق الرجال كما أن رجلا عند الإطلاق لا يتبادر منه الاستغراق لإفراد مفهومه ولو كان للعموم لتبادر منه ذلك فليس الجمع المنكر عاما كما أن رجلا كذا قال في المحصول لنا أن لفظ رجال يمكن نعته بأي جمع شئنا فيقال رجال ثلاثة وأربعة وخمسة فمفهوم قولك رجال يمكن أن يجعل مورد التقسيم لهذه الأقسام والمورد للتقسيم بالأقسام يكون مغايرا لكل واحد من تلك الأقسام فلا يكون دالا عليها وأما الثلاثة فهي مما لابد فيه فيثبت أنه يفيد الثلاث فقط‏.‏

احتج القائلون أنه يفيد العموم بأنه قد ثبت إطلاقه على كل مرتبة من مراتب الجموع فإذا حملناه على الجميع فقد حملناه على جميع حقائقه فكان أولى وأجيب بمنع إطلاقه على كل مرتبة حقيقة بل هو للقدر المشترك بينها كما تقدم ولا دلالة له على الخصوص أصلا واحتجوا ثانيا بأنه لو لم يكن للعموم لكان مخصصا بالبعض واللازم منتف لعدم المخصص وامتناع التخصيص بلا خصوص وأجيب بالنقص برجل ونحوه مما ليس للعموم ولا مختصا بالبعض بل شائع يصلح للجمع ولا يخفاك ضعف ما استدل به هؤلاء القائلون بأنه للعموم فإن دعوى عموم رجال لكل رجل مكابرة لما هو معلوم من اللغة ومعاندة لما يعرفه كل عارف بها‏.‏

المسألة الثامنة‏:‏ ‏[‏في أقل الجمع‏]‏

اختلفوا في أقل الجمع، وليس النزاع في لفظ الجمع المركب من الجيم والميم والعين كما ذكر ذلك إمام الحرمين الجويني وإلكيا الهراس وسليم الرازي فإن جمع موضوعها يقتضي ضم شيء إلى شيء وذلك حاصل في الاثنين والثلاثة وما زاد على ذلك بلا خلاف قال سليم الرازي بل قد يقع على الواحد كما يقال جمعت الثوب بعضه إلى بعض‏.‏

قال الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني لفظ الجمع في اللغة له معنيان الجمع من حيث الفعل المشتق منه الذي هو مصدر جمع يجمع جمعا والجمع الذي هو لقب وهو اسم العدد قال وبعض من لم يهتد إلى هذا الفرق خلط الباب فظن أن الجمع الذي هو بمعنى اللقب من جملة الجمع الذي هو بمعنى الفعل فقال إذا كان الجمع بمعنى الضم فالواحد إذا أضيف إلى الواحد فقد جمع بينهما فوجب أن يكون جمعا وثبت أن الاثنين أقل الجمع وخالف بهذا القول جميع أهل اللغة وسائر أهل العلم وذكر إمام الحرمين الجويني أن الخلاف ليس في مدلول مثل قوله‏:‏ ‏{‏قد صغت قلوبكما‏}‏ وقول القائل ضربت رؤوس الرجلين وقطعت بطونهما بل الخلاف في الصيغ الموضوعة للجمع سواء كان للسلامة أو التكسير وذكر مثل هذا الأستاذ أبو منصور والغزالي إذا عرفت هذا ففي أقل الجمع مذاهب‏:‏

الأول‏:‏ أن أقله اثنان وهو المروي عن عمر وزيد بن ثابت وحكاه عبد الوهاب عن الأشعري وابن الماجشون قال الباجي وهو قول القاضي أبي بكر بن العربي وحكاه ابن خوازمنداد عن مالك واختاره الباجي ونقله صاحب المصادر عن القاضي أبي يوسف وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أهل الظاهر وحكاه سليم الأشعري وبعض المحدثين قال ابن حزم هو قول جمهور أهل الظاهر وحكاه ابن الدهان النحوي عن محمد بن داود وأبي يوسف والخليل ونفطويه قال وسأل سيبويه الخليل فقال الاثنان جمع وعن ثعلب أن التثنية جمع عند أهل اللغة واختاره الغزالي واستدلوا بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة‏}‏ لأنهم طلبوا إلها مع الله ثم قالوا كما لهم آلهة فدل على أنه إذا صار لهم إلهان صاروا بمنزلة الآلهة واستدلوا أيضا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن كان له إخوة‏}‏ فأطلق الأخوة والمراد أخوان فما فوقهما إجماعا وأجيب بأنه قد ورد للاثنين مجازا كما يدل على ذلك ما روى عن ابن عباس أنه قال لعثمان ليس الأخوان أخوة في لسان قومك فقال عثمان لا أنقض أمرا كان قبلي وتوارثه الناس أخرجه ابن خزيمة والحاكم وصححه ابن عبد البر والبيهقي فلم ينكر ذلك عثمان بل عدل إلى التأويل وهو الحمل على خلاف الظاهر بالإجماع وبمثل هذا يجاب عما استدلوا به من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا معكم مستمعون‏}‏ والمراد موسى وهارون وأيضا قد قيل بمنع كون المراد موسى وهارون فقط بل هما من فرعون وأما استدلالهم بما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «الاثنان فما فوقهما جماعة» فهو استدلال خارج عن محل النزاع لأنه لم يقل الاثنان فما فوقهما جمع بل قال جماعة يعني أنهما تنعقد بهما صلاة الجماعة‏.‏

المذهب الثاني‏:‏ أن أقل الجمع ثلاثة وبه قال الجمهور وحكاه ابن الدهان النحوي عن جمهور النحاة وقال ابن خروف في شرح كتاب سيبويه أنه مذهب سيبويه وهذا هو القول الحق الذي عليه أهل اللغة والشرع وهو السابق إلى الفهم عند إطلاق الجمع والسبق دليل الحقيقة ولم يتمسك من خالفه بشيء يصلح للاستدلال به‏.‏

المذهب الثالث‏:‏ إن أقل الجمع واحد هذا حكاه بعض أهل الأصول وأخذه من كلام إمام الحرمين وقد ذكر ابن فارس في فقه العربية صحة إطلاق الجمع وإرادة الواحد ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فناظرة بم يرجع المرسلون‏}‏ المراد بالمرسلين نوح قال القفال الشاشي في كتابه في الأصول بعد ذكر الأدلة وقد يستوي حكم التثنية وما دونها بديل كمخاطب للواحد بلفظ الجمع في قوله‏:‏ ‏{‏قال رب ارجعون‏}‏ و‏{‏إنا له لحافظون‏}‏ وقد تقول العرب للواحد افعلا افعلوا وهو ظاهر في أن ذلك مجاز وظاهر كلام الغزالي أنه مجاز بالاتفاق وذكر المازري أن القاضي أبا بكر حكى الاتفاق على أنه مجاز ولم يأت من ذهب إلى أنه حقيقة بشيء يعتد به أصلا بل جاء باستعمالات وقعت في الكتاب العزيز وفي كلام العرب خارجة على طريقة المجاز كما تقدم وليس النزاع في جواز التجوز بلفظ الجمع عن الواحد أو الاثنين بل النزاع في كون ذلك معناه حقيقة‏.‏

المذهب الرابع‏:‏ الوقف حكاه الأصفهاني في شرح المحصول عن الآمدي قال الزركشي وفي ثبوته نظر وإنما أشعر به كلام الآمدي فإنه قال في آخر المسألة وإذا عرف مأخذ الجمع من الجانبين فعلى الناظر الاجتهاد في الترجيح وإلا فالوقف لازم هذا كلام ومجرد هذا لا يكفي في حكايته مذهبا انتهى ولا يخفاك أن هذا الموطن ليس من مواطن الوقف فإن موطنه إذا توازنت الأدلة موازنة يصعب الترجيح بينهما وأما مثل هذه المسألة فلم يأت من خالف الجمهور بشيء يصدق عليه اسم الدليل فضلا عن أن يكون صالحا لموازنة ما يخالفه‏.‏

المسألة التاسعة‏:‏ ‏[‏الفعل المثبت إذا كان له جهات‏]‏

الفعل المثبت إذا كان له جهات فليس بعام في أقسامه؛ لأنه يقع على صفة واحدة فإن عرف تعين وإلا كان مجملا يتوقف فيه مثل قول الراوي صلى بعد غيبوبة الشفق فلا يحمل على الأحمر والأبيض وكذلك صلى في الكعبة فلا يعم الفرض والنفل هكذا قال القاضي والقفال الشاشي والأستاذ أبو منصور والشيخ أبو حامد الإسفراييني والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وسليم الرازي وابن السمعاني وإمام الحرمين الجويني وابن القشيري والإمام فخر الدين الرازي‏.‏

واستدلوا على ذلك بأنه إخبار عن فعل ومعلوم أن الفاعل لم يفعل كل ما اشتمل عليه تسمية ذلك الفعل مما لا يمكن استيعاب فعله فلا معنى للعموم في ذلك قال الغزالي وكما لا عموم له بالنسبة إلى أحوال الفعل فلا عموم له بالنسبة إلى الأشخاص بل يكون خاصا في حقه صلى الله عليه وسلم إلا أن يدل دليل من خارج لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صلوا كما رأيتموني أصلي» وهذا غير مسلم فإن دليل التأسي به صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني‏}‏ ونحو ذلك يدل على أن ما فعله صلى الله عليه وسلم فسائر أمته مثله إلا أن يدل دليل على أنه خاص به‏.‏

وأطلق ابن الحاجب أن الفعل المثبت ليس بعام في أقسامه ثم اختار في نحو قوله نهى عن بيع الغرر وقضى بالشفعة للجار أنه يعم الغرر والجار مطلقا وقد تقدمه إلى ذلك شيخه ابن الأنباري والآمدي وهو الحق لأن مثل هذا ليس بحكاية للفعل الذي فعله بل حكاية لصدور النهي منه عن بيع الغرر والحكم منه بثبوت الشفعة للجار لأن عبارة الصحابي يجب أن تكون مطابقة للمقول لمعرفته باللغة وعدالته ووجوب مطابقة الرواية لمسموع وبهذا تعرف ضعف ما قاله في المحصول من أن قول الصحابي ينهى عن بيع الغرر والحكم منه ثبوت الشفعة لا يفيد العموم لأن الحجة في المحكي لا في الحكاية والذي رآه الصحابي حتى روى النهي يحتمل أن يكون خاصا بصورة واحدة وان يكون عاما ومع الاحتمال لا يجوز القطع بالعموم قال وأيضا قول الصحابي قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين لا يفيد العموم وكذا قول الصحابي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «قضيت بالشفعة» لاحتمال كونه حكاية عن قضاء لجار معروف ويكون الألف واللام للتعريف وقوله قضيت حكاية عن فعل معين ماض فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم قضيت بالشفعة وقول الراوي أنه قضى بالشفعة للجار فالاحتمال فيهما قائم ولكن جانب العموم راجح في الصورتين كليهما أما قوله نهى عن بيع الغرر وقضى بالشاهد واليمين فرجحان عمومه وضعف دعوى احتمال كونه خاصا في غاية الوضوح لما قدمنا نقل الآمدي عن الاكثرين مثل ما ذكره صاحب المحصول وهو خلاف الصواب وإن قال به الأكثرون لأن الحجة في الحكاية لثقة الحاكي ومعرفته وحكى عن بعض أهل الأصول التفصيل بين أن يقترن الفعل بحرف أن فيكون للعموم كقوله قضى أن الخراج بالضمان وبين أن لا يقترن فيكون خاصا نحو قضى بالشفعة للجار‏.‏

وقد حكى هذا القول القاضي في التقريب والأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق والقاضي عبد الوهاب وصححه وحكاه عن أبي بكر القفال وجعل بعض المتأخرين النزاع لفظيا من جهة أن المانع للعموم ينفي عموم الصيغة المذكورة نحو أمر وقضى والمثبت للعموم فيها هو باعتبار دليل خارجي انتهى وأما نحو قول الصحابي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل كذا فلا يجري فيه الخلاف المتقدم لأن لفظ كان هو الذي دل على التكرار لا لفظ الفعل الذي بعدها نحو كان يجمع وإنما الخلاف في قول الراوي ونحوه وهذا إذا دلت قرينة على عدم الخصوص كوقوعه بعد إجمال أو إطلاق أو عموم فيفهم أنه بيان فنتبعه‏.‏

المسألة العاشرة‏:‏ ‏[‏في صيغة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏‏]‏

ذهب الجمهور إلى أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع من أنواع المال إلا أن يخص بدليل، قال الشافعي مخرج هذه الآية عام في الأموال وكان يحتمل أن يكون بعض الأموال دون بعض الأموال دون بعض فدلت السنة على أن الزكاة في بعض المال دون بعض وقال في موضع آخر ولولا دلالة السنة لكان ظاهر القرآن أن الأموال كلها سواء وأن الزكاة في جميعها لا في بعضها دون بعضه‏.‏

واستدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بأن هذه الصيغة من صيغ العموم لأنها جمع مضاف وقد تقدم أن ذلك من صيغ العموم فيكون المعنى خذ من كل واحد واحد من أموالهم صدقة إذ معنى العموم ذلك وهو المطلوب‏.‏

وأجيب عن هذا بمنع كون معنى العموم ذلك وذهب الكرخي من الحنفية وبعض أهل الأصول ورجحه ابن الحاجب إلى أنه لا يعم بل إذا أخذ من جميع أموالهم صدقة واحدة فقد أخذ من أموالهم صدقة وإلا لزم أخذ الصدقة من كل درهم ودينار ونحوهما واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله وأجيب بأن الجمع لتضعيف المفرد خصوصا مثل المال والعلم والمال قد يراد به المفرد فيكون معنى الجمع المعرف باللام أو الإضافة جميع الأفراد وقد يراد به الجنس فيكون معناه جميع الأنواع بالأموال والعلوم والتعويل على القرائن وقد دل العرف وانعقد الإجماع على أن المراد في مثل خذ من أموالهم الأنواع لا الإفراد وأما ما يتوهم من أن معنى الجمع العام هو المجموع من حيث هو مجموع أو كل واحد من المجموع لا من الآحاد حتى بنوا عليه أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع فمدفوع بأن اللام والإضافة يهدمان الجمع ويصيرانه للجنس‏.‏

وذهب الآمدي إلى الوقف فقال وبالجملة فالمسألة محتملة ومأخذ الكرخي دقيق انتهى وقد اختلف النقل عن الكرخي فنقل عنه ابن برهان ما تقدم ونقل عنه أبو بكر الرازي أنه ذهب إلى أنه يقضي عموم وجوب الأخذ في سائر أصناف الأموال ومن جملة ما احتج به القائلون بعدم العموم أن لفظ من الداخلة على الأموال تمنع من العموم وأجاب عن ذلك القرافي بأن لابد من تعلقها بمحذوف وهو صفة للصدقة والتقدير كائنة أو مأخوذة من أموالهم‏.‏

وهذا لا ينافي العموم لأن معنى كائنة أو مأخوذة من أموالهم أن لا يبقى نوع من المال إلا ويؤخذ منه الصدقة وقال بعضهم الجار والمجرور الذي هو من أموالهم أن كان متعلقا بقوله خذ فالمتجه ما قال الكرخي لأن التعلق مطلق والصدقة نكرة في سياق الإثبات فيحصل الامتثال بصدقة واحدة من نوع واحد وإن كان متعلقا بقوله صدقة فالقول قول الجمهور لأن الصدقة إنما تكون من أموالهم إذا كانت من كل نوع من أموالهم‏.‏

قال الزركشي وفيه نظر لأنه إذا كان المعتبر دلالة العموم الكائنة في أموالهم فإنها كلية فالواجب حينئذ من كل نوع من أنواع الأموال عملا بمقتضى العموم ولا نظر إلى تنكير صدقة وأنه نكرة في سياق الإثبات فلا عموم له على الوجهين أيضا انتهى ولا يخفاك أن دخول من هاهنا على الاموال لا ينافي ما قاله الجمهور بل هو عين مرادهم لأنها لو حذفت لكانت الآية دالة على أخذ جميع أنواع الأموال فلما دخلت أفاد ذلك أنه يؤخذ من كل بعضه وذلك البعض هو ما ورد تقديره في السنة المطهرة من العشر في بعض ونصف العشر في بعض آخر وربع العشر في بعض آخر ونحوه هذه المقادير الثابتة بالشريعة كزكاة المواشي ثم هذا العموم المستفاد من هذه الآية قد جاءت السنة المطهرة بما يفيد تخصيصه ببعض الأنواع دون بعض فوجب بناء العام على الخاص‏.‏

المسألة الحادية عشرة‏:‏ ‏[‏الألفاظ الدالة على جمع المذكر والمؤنث‏]‏

الألفاظ الدالة على الجمع بالنسبة إلى دلالتها على المذكر والمؤنث على أقسام‏:‏

الأول ما يختص به أحدهما ولا يطلق على الآخر بحال كرجال للمذكر ونساء للمؤنث فلا يدخل أحدهما في الآخر بالإجماع إلا بدليل خارج من قياس أو غيره‏.‏

الثاني‏:‏ ما يعم الفريقين بوضعه وليس لعلامة التذكير والتأنيث في مدخل كالناس والأنس والبشر فيدخل فيه كل منهما بالإجماع‏.‏

الثالث‏:‏ ما يشملهما بأصل وضعه ولا يخص بأحدهما إلا ببيان وذلك نحو ما ومن فقيل أنه لا يدخل فيه النساء إلا بدليل ولا وجه لذلك بل الظاهر أنه مثل الناس والبشر ونحوهما كما في قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى‏}‏ فلولا عمومه لهما لم يحسن التقسيم من بعد ذلك وممن حكى الخلاف في هذه الصورة من الأصولين أبو الحسين في المعتمد وإلكيا الهراس في التلويح وحكاه غيرهما عن بعض الحنفية وإنهم لأجل ذلك قالوا أن المرتدة لا تقتل لعدم دخولها في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من بدل دينه فاقتلوه» لكن الموجود في كتبهم أنها تعم الجميع وصرح به البزدوي وشراح كتابه وابن الساعاتي وغيرهم إذ نقل الرازي في المحصول الإجماع على أنه لو قال من دخل داري من أرقائي فهو حر دخل فيه الإماء وكذلك لو علق بهذا اللفظ وصية أو توكيلا أو إذنا في أمر لم يختص بالذكر وأما إمام الحرمين الجويني فخص الخلاف بما إذا كان شرطية قال الصفي الهندي والظاهر أنه لا فرق بينهما وبين من الموصولة والاستفهامية وإن الخلاف جار في الجميع انتهى ولا يخفاك أن دعوى اختصاص من بالذكور لا ينبغي أن ننسب إلى من له أدنى فهم بل لا ينبغي أن تنسب إلى من يعرف لغة العرب‏.‏

الرابع‏:‏ ما يستعمل بعلامة التأنيث في المؤنث وبحذفها في المذكر وذلك الجمع السالم نحو مسلمين للذكور ومسلمات للإناث ونحو فعلوا وفعلن فذهب الجمهور إلى أنه لا يدخل النساء فيما هو للذكور إلا بدليل كما لا يدخل الرجال فيما هو النساء إلا بدليل‏.‏

قال القفال وأصل هذا أن الأسماء وضعت للدلالة على المسمى فحصل كل نوع بما يميزه فالألف والتاء جعلتا علما لجمع الإناث والواو والياء والنون لجمع الذكور والمؤمنات غير المؤمنين وقاتلوا خلاف قاتلن ثم قد تقوم قرائن تقتضي استواءهما فيعلم بذلك دخول الإناث في الذكور وقد لا تقوم قرائن فيلحقن بالذكور بالاعتبار والدلائل كما يلحق المسكوت عنه بالمذكور بدليل ومما يدل على هذا إجماع أهل اللغة على أنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر فلولا أن التسمية للمذكر لم يكن حظه فيها كحظ المؤنث ولكن معناه أنهما إذا اجتمعا استثقل إفراد كل منهما بوصف فغلب المذكر وجعل الحكم له فدل على أن المقصود هو الرجال والنساء توابع انتهى قال الأستاذ أبو المنصور الرازي وهذا قول أصحابنا واختاره القاضي أبو الطيب وابن السمعاني وإلكيا الهراس ونصره ابن برهان والشيخ أبو إسحاق الشيرازي ونقله عن معظم الفقهاء ونقله ابن القشيري عن معظم أهل اللغة وذهبت الحنفية كما حكاه عنهم سليم الرازي وابن السمعاني وابن الساعاتي إلى أنه يتناول الذكور والإناث وحكاه القاضي أبو الطيب عن أبي حنيفة وحكاه الباجي عن ابن خوازمنداد وروى نحوه عن الحنابلة والظاهرية والحق ما ذهب إليه الجمهور من عدم التناول إلا على طريقة التغليب عند قيام المقتضى لذلك لاختصاص الصيغة لغة ووقوع التصريح بما يختص بالنساء مع ما يختص بالرجال في نحو‏:‏ ‏{‏إن المسلمين والمسلمات‏}‏ وقد ثبت في سبب نزول هذه الآية أن أم سلمة قالت يا رسول الله إن النساء قلن ما نرى الله سبحانه ذكر إلا الرجال فنزلت‏.‏

قال ابن الأنباري لا خلاف بين الأصوليين والنحاة أن جمع المذكر لا يتناول المؤنث بحال وإنما ذهب بعض الأصوليين إلى تناوله الجنسين لأنه لما كثر اشتراك الذكور والإناث في الأحكام لم تقصر الأحكام على الذكور قال الزركشي في البحر وحاصلة الإجماع على عدم الدخول حقيقة وإنما النزاع في ظهوره لاشتهاره عرفا‏.‏

قال الصفي الهندي وكلام إمام الحرمين يشعر بتخصيص الخلاف بالخطابات الواردة من الشرع لقرينة عليه وهي المشاركات في الأحكام الشرعية قال واتفق الكل أن المذكر لا يدخل تحته وإن ورد مقترنا بعلامة التأنيث ومن أقوى ما احتج به القائلون بالتعميم إجماع أهل اللغة على أنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر وعلى هذا ورد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قلنا اهبطوا منها جميعا‏}‏ في خطاب آدم وحواء وإبليس ويجاب على هذا بأنه لم يكن ذلك بأصل الوضع ولا بمقتضى اللغة بل بطريق التغليب لقيام الدليل عليه وذلك خارج عن محل النزاع ولا يلزم من صحة إرادة الشيء من الشيء إرادته منه إذا ورد مطلقا بغير قرينة ولم يذكر أحد من أهل اللغة ولا من علماء العربية أن صيغة الذكور عند إطلاقها موضوعة لتناول الجمع وهذا ظاهر واضح لا ينبغي الخلاف في مثله ولم يأت القائلون بالتناول بدليل يدل على ما قالوه لا من جهة اللغة ولا من جهة الشرع ولا من جهة العقل‏.‏

المسألة الثانية عشرة‏:‏ ‏[‏صيغة‏:‏ يا أيها الناس‏]‏

ذهب الجمهور إلى أن الخطاب بمثل يا أيها الناس ونحوها من الصيغ يشمل العبيد والإماء وذهب جماعة إلى أنه لا يعمهم شرعا‏.‏

وقال أبو بكر الرازي من الحنفية إن كان الخطاب في حقوق الله فإنه يعمهم دون حقوق الآدميين فلا يعمهم والحق ما ذهب إليه الأولون ولا ينافي ذلك خروجهم في بعض الأمور الشرعية فإن ذلك إنما كان لدليل يدل على رفع الخطاب عنهم بها قال الأستاذ أبو منصور والقاضي أبو الطيب وإلكيا الطبري أن الذي عليه اتباع الأئمة الأربعة وهو الصحيح من مذهب الشافعي أنهم يدخلون إتباعا لموجب الصيغة ولا يخرجون إلا بدليل ولم يأت القائلون بخلاف ما ذهب إليه الجمهور بدليل يدل على ما ذهبوا إليه فإن ما زعموه من إجماع أهل العلم على عدم وجوب بعض الأمور الشرعية عليهم لا يصلح للاستدلال على محل النزاع لأن عدم وجوب ذلك عليهم لدليل خارجي اقتضى ذلك فكان كالمخصص لعموم الصيغة الشاملة لهم‏.‏

المسألة الثالثة عشرة‏:‏ ‏[‏دخول الكافر في الخطاب الصالح له وللمسلمين‏]‏

ذهب الجمهور إلى دخول الكافر في الخطاب الصالح له وللمسلمين نحو يا أيها الناس إذا ورد مطلقا‏.‏

وذهب بعض الشافعية إلى اختصاصه بالمسلمين وقيل يدخلون في حقوق الله تعالى لا في حقوق الآدميين قال الصفي الهندي والقائلون بعدم دخول العبيد والكفار أن زعموا أنه لا يتناولهم من حيث اللغة فهو مكابرة وإن زعموا التناول لكن الكفر والرق في الشرع خصصهم فهو باطل للإجماع على أنهما مكلفان في الجملة وأما الخطاب الخاص بالمسلمين أو المؤمنين فحكى ابن السمعاني عن بعض الحنفية أنه لا يشمل غيرهم من الكفار ثم اختار التعميم لهم ولغيرهم لعموم التكليف بهذه الأمور والمسلمين خصصوا من باب خطاب التشريف لا خطاب التخصيص بدليل قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا‏}‏ وقد ثبت تحريم الربا في حق أهل الذمة قال الزركشي وفيه نظر لأن الكلام في التناول بالصيغة لا بأمر خارج وقال بعضهم لا يتناولهم لفظا وإن قلنا أنهم مخاطبون إلا بدليل منفصل‏.‏

المسألة الرابعة عشرة‏:‏ ‏[‏في خطاب المواجهة‏]‏

الخطاب الوارد شفاها في عصر النبي يا أيها الناس يا أيها الذين آمنوا ويسمى خطاب المواجهة‏.‏

قال الزركشي لا خلاف في شموله من بعدهم من المعدومين حال صدوره لكن هل هو باللفظ أو بدليل آخر من إجماع أو قياس فذهب جماعة من الحنفية والحنابلة إلى أنه يشملهم باللفظ وذهب الأكثرون إلى أنه لا يشملهم باللفظ لما عرف بالضرورة من دين الإسلام أن كل حكم تعلق بأهل زمانه صلى الله عليه وسلم فهو شامل لجميع الأمة إلى يوم القيامة كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لأنذركم به ومن بلغ‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بعثت إلى الناس كافة» وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وآخرين منهم لما يلحقوا بهم‏}‏ قال ابن دقيق العيد في شرح العنوان الخلاف في أن خطاب المشافهة هل يشمل غير المخاطبين قليل الفائدة ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف عند التحقيق لأنه إما أن ينظر إلى مدلول اللفظ لغة ولا شك أنه لا يتناول غير المخاطبين وإما أن يقال أن المحكم يقصر على المخاطبين إلا أن يدل دليل على العموم في تلك المسألة بعينها وهذا باطل لما علم قطعا من الشريعة أن الأحكام عامة إلا حيث يرد التخصيص انتهى وبالجملة فلا فائدة لنقل ما احتج بها المختلفون في هذه المسألة لأنا نقطع بأن الخطاب الشفاهي إنما يتوجه إلى الموجودين وإن لم يتناولهم الخطاب فلهم حكم الموجودين في التكليف بتلك الأحكام حيث كان الخطاب مطلقا ولم يرد ما يدل على تخصيصهم بالموجودين‏.‏

المسألة الخامسة عشرة‏:‏ الخطاب الخاص بالأمة

نحو‏:‏ يا أيها الأمة لا يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم قال الصفي الهندي بلا خلاف وكذا قال القاضي عبد الوهاب في كتاب الإفادة وأما إذا كان الخطاب بلفظ يشمل الرسول نحو‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ ‏{‏يا عبادي‏}‏ فذهب الأكثرون إلى أنه يشمله وقال جماعة لا يشمله وان لم يكن كذلك كان شاملا له واستنكر هذا التفصيل إمام الحرمين الجويني لأن القول فيهما جميعا مسند إلى الله سبحانه والرسول مبلغ خطابه إلينا فلا معنى للتفرقة‏.‏

وفصل بعض أهل الأصول بتفصيل آخر فقال إن كان الخطاب من الكتاب فهو مبلغ عن الله سبحانه مندرج تحت عموم الخطاب وإن كان من السنة فإما أن يكون مجتهدا أو لا فإن قلنا مجتهد فيرجع إلى أن المخاطب هل يدخل تحت الخطاب أم لا وإن لم يكن مجتهدا فهو مبلغ والمبلغ داخل تحت الخطاب والحق أن الخطاب بالصيغة التي تشمله يتناوله بمتقضى اللغة العربية لا شك في ذلك لا شبهة حيث كان الخطاب من جهة الله سبحانه تعالى وإن كان الخطاب من جهته صلى الله عليه وسلم فعلى الخلاف الآتي في دخول المخاطب في خطابه وما قيل من أنه لا فائدة في الخلاف في هذه المسألة مدفوع بظهور الفائدة في الخطابات العامة وإذا فعل صلى الله عليه وسلم ما يخالفها فإن قلنا أنه داخل في العموم كان فعله تخصيصا وإن قلنا ليس بداخل لم يكن فعله مخصصا لذلك العموم بل يبقى على عمومه وأما الخطاب المختص بالرسول صلى الله عليه وسلم نحو يا أيها النبي الرسول ويا أيها النبي فذهب الجمهور إلى أنه لا يدخل تحته الأمة إلا بدليل من خارج وقيل أنه يشمل الأمة روى ذلك عن أبي حنيفة وأحمد واختاره إمام الحرمين وابن السمعاني قال في المحصول وهؤلاء أن زعموا أن ذلك مستفاد من اللفظ فهو جهالة وإن زعموا أنه مستفاد من دليل آخر وهو قوله‏:‏ ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏ وما يجري مجرى ذلك فهو خارج عن هذه المسألة لأن الحكم عندنا إنما أوجب على الأمة لا بمجرد الخطاب المتناول للنبي صلى الله عليه وسلم فقط بل بالدليل الآخر انتهى‏.‏

قال الزركشي وما قالوه بعيد إلا أن يحمل على التعبير بالكبير عن اتباعه فيكون مجازا لا حقيقة وحكى إمام الحرمين أنه قال إما أن ترد الصيغة في التخصيص أو لا فإن وردت فهو خاص وإلا فهو عام لأنا لم نجد دليلا قاطعا على التخصيص ولا على التعميم انتهى ولا يخفاك ضعف هذا التفصيل وركاكة ما أخذه لأن النزاع إنما هو في نفس الصيغة وهي خاصة بلا شك فورودها في محل التخصيص لا يزيدها تخصيصا باعتبار اللفظ ورودها في محل التعميم لا يوجب من حيث اللفظ أن تكون عامة فإن كان ذلك في حكم الدليل على فهو غير محل النزاع‏.‏

المسألة السادسة عشرة‏:‏ الخطاب الخاص بواحد من الأمة

إن صرح بالاختصاص به كما في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تجزئك ولا تجزئ أحدا بعد» فلا شك في اختصاصه بذلك المخاطب، وإن لم يصرح فيه بالاختصاص بذلك المخاطب فذهب الجمهور إلى أنه مختص بذلك المخاطب ولا يتناول غيره إلا بدليل من خارج‏.‏

وقال بعض الحنابلة وبعض الشافعية أنه يعم بدليل ما روى من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» وما روى عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة» ونحو ذلك ولا يخفى أن الاستدلال بهذا خارج عن محل النزاع فإنه لا خلاف أنه إذا دل دليل من خارج على أن حكم غير ذلك المخاطب كحكمه كان له حكمه بذلك الدليل وإنما النزاع في نفس تلك الصيغة الخاصة هل تعم بمجردها أم لا فمن قال إنها تعمها بلفظها فقد جاء بما لا تفيده لغة العرب ولا تقتضيه بوجه من الوجوه قال القاضي أبو بكر هو عام بالشرع لا بالوضع للقطع باختصاصه به لغة‏.‏

قال إمام الحرمين الجويني لا ينبغي أن يكون في هذه المسألة خلاف إذ لا شك أن الخطاب خاص لغة بذلك الواحد ولا خلاف أنه عام بحسب العرف الشرعي وقيل بل الخلاف معنوي لا لفظي لأنا نقول الأصل ما هو هل هو مورده الشرعي أو مقتضى اللغة‏.‏

قال الصفي الهندي لا نسلم أن الخطاب عام في العرف الشرعي قال الزركشي والحق أن التعميم منتف لغة ثابت شرعا والخلاف في أن للعادة هل تقتضي بالاشتراك بحيث يتبادر فهم أهل العرب إليها أولا فأصحابنا يعنى الشافعية يقولون لا قضاء للعادة في ذلك كما لا قضاء للغة والخصم يقول إنها تقتضي بذلك انتهى والحاصل في هذه المسألة على ما يقتضيه الحق ويوجبه الإنصاف عدم التناول لغير المخاطب من حيث الصيغة بل بالدليل الخارجي‏.‏

وقد ثبت عن الصحابة فمن بعدهم الاستدلال بأقضيته صلى الله عليه وسلم الخاصة بالواحد أو الجماعة المخصوصة على ثبوت مثل ذلك لسائر الأمة فكان هذا مع الأدلة الدالة على عموم الرسالة وعلى استواء أقدام هذه الأمة في الأحكام الشرعية مفيدا لإلحاق غير ذلك المخاطب به في ذلك الحكم عند الإطلاق إلى أن يقوم الدليل الدال على اختصاصه بذلك فعرفت بهذا أن الراجح التعميم حتى يقوم دليل التخصيص لا كما قيل أن الراجح التخصيص حتى يقوم دليل التعميم لأنه قد قام كما ذكرناه‏.‏

المسألة السابعة عشرة‏:‏ ‏[‏هل يدخل المخاطِب في عموم خطابه‏]‏

اختلفوا في المخاطب- بكسر الطاء- هل يدخل في عموم خطابه‏؟‏ فذهب الجمهور إلى أنه يدخل ولا يخرج عنه إلا بدليل قال الأستاذ أبو منصور وهو الصحيح من مذهب الشافعي قال الأستاذ أبو منصور وفائدة الخلاف فيما إذا ورد منه صلى الله عليه وسلم لفظ عام في إيجاب حكمه أو حظره أو إباحته هل يدل ذلك على دخوله فيه أم لا‏؟‏

قال ابن برهان في الأوسط ذهب معظم العلماء إلى أن الأمر لا يدخل تحت الخطاب ونقل عبد الجبار وغيره من المعتزلة دخوله انتهى ونقله لهذا القول عن معظم العلماء يخالف نقل الأستاذ أبي منصور والرازي في المحصول وابن الحاجب في مختصر المنتهى وغيرهم فإنهم جعلوا دخول المخاطب في خطابه مذهب الأكثرين‏.‏

وقال إمام الحرمين الجويني أن خطابه يتناوله بنفسه ولكنه خارج عنه عادة فذهب إلى التفصيل وتابعه على هذا التفصيل إلكيا الهراس قال الصفي الهندي هذه المسألة قد تعرض في الأمر مرة وفي النهي مرة وفي الخبر مرة والجمهور على دخوله انتهى والذي ينبغي اعتماده أن يقال إن كان مراد القائل بدخوله في خطابه أن ما وضع للمخاطب يشمل المتكلم وضعا فليس كذلك وإن كان المراد أنه يشمله حكما فمسلم إذا دل عليه دليل وكان الوضع شاملا له كألفاظ العموم‏.‏

المسألة الثامنة عشرة‏:‏ ‏[‏في حكم المقتضي‏]‏

اختلفوا في المقتضي هل هو عام أم لا‏؟‏

ولابد من تحرير تصويره قبل نصب الخلاف فيه فنقول المقتضي بكسر الضاد هو اللفظ الطالب للإضمار بمعنى أن اللفظ لا يستقيم إلا بإضمار شيء وهناك مضمرات متعددة فهل يقدر جميعها أو يكتفي بواحد منها وذلك التقدير هو المقتضى بفتح الضاد وقد ذكروا لذلك أمثلة مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحج أشهر معلومات‏}‏ ومثل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» فإن هذا الكلام لا يستقيم بلا تقدير لوقوعهما من الأمة فقدروا في ذلك تقديرات مختلفة كالعقوبة والحساب والضمان ونحو ذلك ونحو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنما الأعمال بالنيات» وأمثال ذلك كثيرة فذهب بعض أهل العلم إلى أنه يحمل على العموم في كل ما يحتمله لأنه أعم فائدة وذهب بعضهم إلى أنه يحمل على الحكم المختلف فيه لأن ما سواه معلوم بالإجماع‏.‏

قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وهذا كله خطأ لأن الحمل على الجميع لا يجوز وليس هناك لفظ يقتضي العموم ولا يحمل على موضع الخلاف لأنه ترجيح بلا مرجع انتهى وذهب الجمهور إلى أنه لا عموم له بل يقدر منها ما دل الدليل على إرادة فإن لم يدل دليل على إرادته واحد منها بعينه كان مجملا بينها وبتقدير الواحد منها الذي قام الدليل على أنه المراد يحصل المقصود وتندفع الحاجة فكان ذكر ما عداه مستغنى عنه وأيضا قد تقرر أنه يجب التوقف فيما تقتضيه الضرورة على قدر الحاجة وهذا هو الحق وقد اختاره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والغزالي وابن السمعاني وفخر الدين الرازي والآمدي وابن الحاجب‏.‏

قال الرازي في المحصول مستدلا للقائلين بعموم المقتضى بأن إضمار أحد الحكمين ليس بأولى من إضمار الآخر فإما أن لا يضمر حكم أصلا وهو غير جائز لأنه تعطيل لدلالة اللفظ أو يضمر الكل وهو المطلوب وهكذا استدل لهم ولم يجب عن ذلك وأجاب الآمدي عنه بأن قولهم ليس إضمار البعض أولى من البعض إنما يلزم أن لو قلنا بإضمار حكم معين وليس كذلك بل إضمار حكم ما والتعيين إلى الشارح ثم أورد عليه بأنه يلزم الإجمال‏.‏

وأجاب بأن إضمار الكل يلزم منه تكثير مخالفة الأصلي وكل منهما يعني الإجمال وإضمار الكل خلاف الأصل قال ابن برهان وإذا قلنا ليس بمجمل فقيل يصرف إطلاقه في كل عين إلى المقصود واللائق به وقيل يضمر الموضع المختلف فيه لأن المجمع عليه مستغن عن الدليل حكى ذلك الشيخ أبو إسحاق الشيرازي قال الأصفهاني في شرح المحصول أن قلنا المقتضى له عموم أضمر الكل وإن قلنا لا عموم له فهل يضمر ما يفهم من اللفظ بعرف الاستعمال قبل الشرع أو يضمر حكم من غير تعيين وتعيينه إلى المجتهد والأول اختيار الغزالي والثاني اختيار الآمدي والثالث التوقف انتهى وهذا الخلاف في هذه المسألة إنما هو فيما إذا لم يفهم بدليل يدل على تعيين أحد الأمور الصالحة للتقدير أما إذا قام الدليل على ذلك فلا خلاف في أنه يتعين للتقدير ما قام الدليل على تقديره كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ و‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ فإنه قد قام الدليل على أن المراد في الآية الأولى تحريم الأكل وفي الثانية الوطء‏.‏

المسألة التاسعة عشرة‏:‏ ‏[‏في عموم المفهوم‏]‏

اختلفوا في المفهوم هل له عموم أم لا‏؟‏

فذهب الجمهور إلى أن له عموما وذهب القاضي أبو بكر الغزالي وجماعة من الشافعية إلى أنه لا عموم له قال الغزالي من يقول بالمفهوم قد يظن أن له عموما ويتمسك به ثم رده بأن العموم من عوارض الألفاظ والمفهوم ليست دلالته لفظية فإذا قال في سائمة الغنم الزكاة فنفى الزكاة عن المعلوفة ليس بلفظ حتى يعم أو يخص أورد ذلك صاحب المحصول فقال إن كنت لا تسميه عموما لأنك لا تطلق لفظ العام إلا على الإلفاظ فالنزاع لفظي وإن كنت تعني به أنه لا يعرف منه انتفاء الحكم عن جميع ما عداه فهو باطل لأن البحث على أن المفهوم هل له عموم أم لا ومتى ثبت كون المفهوم حجة لزم القطع بانتفائه عما عداه لأنه لو ثبت الحكم في غير المذكور لم يكن لتخصيصه بالذكر فائدة انتهى‏.‏

قال القرافي والظاهر من حال الغزالي أنه إنما خالف في التسمية لأن لفظ العموم إنما وضع للفظ لا للمعنى قال ابن الحاجب إنما أراد الغزالي أن العموم لم يثبت بالمنطوق به فقط بل بواسطته وهذا مما لا خلاف فيه وقال الخلاف لا يتحقق في هذه المسألة قال ابن الأنباري في شرح البرهان أن القائل بأن للمفهوم عموما مستنده أنه إذا قيل له في سائمة الغنم الزكاة فقد تضمن ذلك قولا آخر وهو لا زكاة في المعلوفة وهو ولو صرح بذلك لكان عاما في المقصود أما إذا وجدنا صورة من صور المفهوم موافقة للمنطوق به فهل نقول بطل المفهوم بالكلية حتى لا يتمسك به في غير تلك الصورة‏؟‏

أو نقول يتمسك به فيما وراء ذلك هذا موضع نظر قال والأشبه بناء ذلك على أن مستند المفهوم ماذا هل هو البحث عن فوائد التخصيص كما هو اختيار الشافعي فلا يصح أن يكون له عموم وإن قلنا استناده إلى عرف لغوي فصحيح وخرج من كلامه وكلام الشيخ أن الخلاف معنوي وليس الخلاف لفظيا كما زعموا انتهى قال العضد في شرحه لمختصر المنتهى وإذا حرر محل النزاع لم يتحقق خلاف لأنه أن فرض النزاع في أن مفهومي المرافقة والمخالفة يثبت بهما الحكم في جميع ما سوى المنطوق من الصور أو لا فالحق النفي وهو مراد الغزالي وهم لا يخالفونه فيه ولا ثالث هاهنا يمكن فرضه محل النزاع والحاصل أنه نزاع لفظي يعود إلى تفسير العام بأنه ما يستغرق في محل النطق أو ما يستغرق في الجملة انتهى‏.‏

قال الزركشي ما ذكروه من عموم المفهوم حتى يعمل به فيما عدا المنطوق يجب تأويله على أن المراد ما إذا كان المنطوق جزئيا وبيانه أن الإجماع على أن الثابت بالمفهوم إنما هو نقيض المنطوق والإجماع على أن نقيض الجزئي المثبت كلي سالب ومن هاتين المقدمتين يعلم أن ما كان منطوقه كليا سالبا كان مفهومه جزئيا سالبا فيجب تأويل قولهم أن المفهوم عام على ما إذا كان المنطوق به خاصا ليجتمع أطراف الكلام انتهى وقد تقدم في مسألة الخلاف في كون العموم من عوارض الألفاظ فقط أم من عوارض الألفاظ والمعاني‏؟‏ وكذلك سيأتي إن شاء الله تعالى في بحث المفهوم ما إذا تأملته زادك بصيرة‏.‏

المسألة الموفية للعشرين‏:‏ ‏[‏ترك الاستفصال في حكاية الحال‏]‏

قال الإمام الشافعي ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال‏.‏

قال في المحصول مثاله أن ابن غيلان أسلم على عشر نسوة فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمسك أربعا منهن وفارق سائرهن» ولم يسأل عن كيفية ورود عقده عليهن في الجمع والترتيب فكان إطلاقه القول دالا على أنه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معا أو على الترتيب وهذا فيه نظر لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم عرف خصوصا فأجاب بناء على معرفته ولم يستفصل انتهى ويجاب عنه بأن هذا الاحتمال إنما يصار إليه إذا كان راجحا وليس بمساو فضلا عن أن يكون راجحا‏.‏

المسألة الحادية عشرون‏:‏ ‏[‏في حذف المتعلق‏]‏

ذكر علماء البيان أن حذف المتعلق يشعر بالتعميم؛ نحو زيد يعطي ويمنع ونحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يدعو إلى دار السلام‏}‏ فينبغي أن يكون ذلك من أقسام العموم وإن لم يذكره أهل الأصول قال الزركشي وفيه بحث فإن ذلك مما أخذ من القرائن وحينئذ فإن دلت القرينة على أن المقدر يجب أن يكون عاما فالتعميم من عموم المقدر سواء ذكر أو حذف وإلا فلا دلالة على التعميم فالظاهر أن العموم فيما ذكر إنما هو لدلالة القرينة على أن المقدر عام والحذف إنما هو لمجرد الاختصار لا للتعميم‏.‏

المسألة الثانية والعشرون‏:‏ الكلام العام الخارج على طريقة المدح أو الذم

نحو‏:‏ ‏{‏إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم‏}‏ ونحو‏:‏ ‏{‏والذين هم لفروجهم حافظون‏}‏ ذهب الجمهور إلى أنه عام ولا يخرجه عن كونه عاما حسبما تقضيه الصيغة كونه مدحا أو ذما‏.‏

وذهب الشافعي وبعض أصحابه إلى أنه لا يقتضي العموم وحكى أبو الحسين بن القطان والأستاذ أبو منصور وسليم الرازي وابن السمعاني وجهين في ذلك لأصحاب الشافعي وروى القول بعدم عمومه عن القاشاني والكرخي نقله عن الأول أبو بكر الرازي وعن الثاني ابن برهان‏.‏

وقال إلكيا الهراس أنه الصحيح وبه جزم القفال الشاشي وقال لا يحتج بقوله‏:‏ ‏{‏والذين يكنزون الذهب والفضة‏}‏ على وجوب الزكاة في قليل الذهب والفضة وكثيرهما بل مقصود الآية الوعيد لتارك الزكاة وكذا لا يحتج بقوله‏:‏ ‏{‏والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم‏}‏ على ما يحل منها وما لا يحل وكان فيها بيان أن الفرج لا يجب حفظه عنهما ثم إذا احتيج إلى تفصيل ما يحل بالنكاح أو بملك اليمين صير فيه إلى ما قصد تفصيله مثل ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ انتهى‏.‏

والراجح ما ذهب إليه الجمهور لعدم التنافي بين قصد العموم والمدح أو الذم ومع عدم التنافي يجب التمسك بما يفيده اللفظ من العموم ولم يأت من منع من عمومه عند قصد المدح أو الذم بما تقوم به الحجة‏.‏

المسألة الثالثة والعشرون‏:‏ ورود العام على سبب خاص

وقد أطلق جماعة من أهل الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب‏.‏

وحكوا ذلك إجماعا كما رواه الزركشي في البحر قال ولابد في ذلك من تفصيل وهو أن الخطاب أما أن يكون جوابا لسؤال سائل أو لا فإن كان جوابا فإما أن يستقل بنفسه أو لا فإن لم يستقل بحيث لا يحصل الابتداء به فلا خلاف في أنه تابع للسؤال في عمومه وخصوصه السؤال قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم‏}‏ وقوله في الحديث أينقص الرطب إذا جف قالوا نعم قال فلا إذا وكقولك القائل وطئت في نهار رمضان عامدا فيقول عليك الكفارة فيجب قصر الحكم على السائل ولا يعم غيره إلا بدليل من خارج يدل على أنه عام في المكلفين أو في كل من كان بصفته ومثال عمومه ما لو سئل عمن جامع امرأته في نهار رمضان فقال يعتق رقبة فهذا عام في كل واطئ في نهار رمضان وقوله يعتق وإن كان خاصا بالواحد لكنه لما كان جوابا عمن جامع امرأته بلفظ يعم كل من جامع كان الجواب كذلك وصار السؤال معادا في الجواب قال الغزالي وهذا يشترط فيه أن يكون حال غير المحكوم عليه كحاله في كل وصف مؤثر للحكم وجعل القاضي في التقريب من هذا الضرب قوله‏:‏ «أنتوضأ بماء البحر فقال هو الطهور ماؤه» قال لأن الضمير لابد له من أن يتعلق بما قبله ولا يحسن أن يبتدأ به قال الزركشي وفي هذا نظر لأن هذا ضمير شأن ومن شأنه صدر الكلام وإن لم يتعلق بما قبله قال وقد رجع القاضي في موضع آخر فجعله من القسم الثاني وهو الصواب وبه صرح ابن برهان وغيره وإن استقل الجواب بنفسه بحيث لو ورد مبتدأ لكان كلاما تاما مفيدا للعموم فهو على ثلاثة أقسام لأنه أما أن يكون أخص أو مساويا أو أعم‏.‏

الأول‏:‏ أن يكون الجواب مساويا له يزيد عليه ولا ينقص كما لو سئل عن ماء البحر فقال ماء البحر لا ينجسه شيء فيجب حمله على ظاهره بلا خلاف وكذلك قال ابن فورك والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وابن القشيري وغيرهم‏.‏

الثاني‏:‏ أن يكون الجواب أخص من السؤال مثل أن يسأل عن أحكام المياه فيقول ماء البحر طهور فيختص ذلك بماء البحر ولا يعم بلا خلاف كما حكاه الأستاذ أبو منصور وابن القشيري وغيرهما‏.‏

الثالث‏:‏ أن يكون الجواب أعم من السؤال وهما قسمان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون أعم منه في حكم آخر غير ما سئل عنه كسؤالهم عن التوضؤ بماء البحر وجوابه صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «هو الطهور ماؤه والحل ميتته» فلا خلاف أنه عام لا يختص بالسائل ولا بمحل السؤال من ضرورتهم إلى الماء وعطشهم بل يعم حال الضرورة والاختيار كذا قال ابن فورك وصاحب المحصول وغيرهما وظاهر كلام القاضي أبي الطيب وابن برهان أنه يجري في هذا الخلاف الآتي في القسم الثاني وليس بصواب كما لا يخفى‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أن يكون الجواب أعم من السؤال في ذلك الحكم الذي وقع السؤال عنه كقوله لما سئل عن كقوله لما سئل عن ماء بئر بضاعة الماء طهور لا ينجسه شيء وكقوله لما سئل عمن اشتري عبدا فاستعمله ثم وجد فيه عيبا الخراج بالضمان وهذا القسم محل الخلاف وفيه مذاهب‏:‏

المذهب الأول‏:‏ الأول أنه يجب قصره على ما خرج عليه السؤال وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي وحكاه الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وسليم الرازي وابن برهان وابن السمعاني عن المزني وأبي ثور القفال والدقاق وحكاه أيضا الشيخ أبو منصور عن أبي الحسن الأشعري وحكاه أيضا بعض المتأخرين عن الشافعي وحكاه القاضي عبد الوهاب والباجي عن أبي الفرج من أصحابهم وحكاه الجويني في البرهان عن أبي حنيفة وقال إنه الذي صح عندنا من مذهب الشافعي وكذا قال الغزالي في المنخول ومعه فخر الدين الرازي في المحصول قال الزركشي والذي في كتب الحنفية وصح عن الشافعي خلافه ونقل هذا المذهب القاضي أبي الطيب والماوردي وابن برهان وابن السمعاني عن مالك‏.‏

المذهب الثاني‏:‏ أنه يجب حمله على العموم لأن عدول المجيب عن الخاص المسؤول عنه إلى العام دليل على إرادة العموم ولأن الحجة قائمة بما يفيده اللفظ وهو يقتضي العموم ووروده على السبب لا يصلح معارضا وإلى هذا ذهب الجمهور قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي وابن برهان وهو مذهب الشافعي واختاره أبو بكر الصيرفي وابن القطان قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن القشيري وإلكيا الطبري والغزالي إنه الصحيح وبه جزم القفال الشاشي قال والأصل أن العموم له حكمه إلا أن يخصه دليل والدليل قد اختلف فإن كان في الحال دلالة يعقل بها المخاطب أن جوابه العام يقتصر به على ما أجيب عنه أو على جنسه فذاك وإلا فهو عام في جميع ما يقع عليه عمومه وحكا هذا المذهب ابن كنج عن أبي حنيفة والشافعي وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أكثر الشافعية والحنفية وحكاه القاضي عبد الوهاب عن الحنفية وأكثر الشافعية والمالكية وحكاه الباجي عن اكثر المالكية والعراقيين قال القاضي في التقريب وهو الصحيح لأن الحكم معلق بلفظ الرسول دون ما وقع عليه السؤال ولو قال ابتداء وجب حمله على العموم فكذلك إذا صدر جوابا انتهى وهذا المذهب هو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة لأن التعبد للعباد إنما هو باللفظ الوارد عن الشارع وهو عام ووروده على سؤال خاص لا يصلح قرينة لقصره على ذلك السبب ومن ادعى أنه يصلح لذلك فليأت بدليل تقوم به الحجة ولم يأت أحد من القائلين بالقصر على السبب بشيء يصلح لذلك وإذا ورد في بعض المواطن ما يقتضي قصر ذلك العام الوارد فيه على سببه لم يجاوز به محله بل يقصر عليه ولا جامع بين الذي ورد فيه بدليل يخصه وبين سائر العمومات الواردة على أسباب خاصة حتى يكون ذلك الدليل في ذلك الموطن شاملا لها‏.‏

المذهب الثالث‏:‏ الوقف حكاه القاضي في التقريب ولا وجه له لأن الأدلة هنا لم تتوازن حتى يقتضي ذلك التوقف‏.‏

المذهب الرابع‏:‏ التفصيل بين أن يكون السبب هو سؤال سائل فيختص به وبين أن يكون السبب مجرد وقوع حادثة كان وذلك القوم العام واردا عند حدوثها فلا يختص بها كذا حكاه عبد العزيز في شرح البزدوي‏.‏

المذهب الخامس‏:‏ أنه إن عارض هذا العام الوارد سبب عموم آخر خرج ابتداء بلا سبب فإنه يقصر على سببه وإن لم يعارضه فالعبرة بعمومه قال الأستاذ أبو منصور هذا هو الصحيح انتهى وهذا لا يصلح أن يكون مذهبا مستقلا فإن هذا العام الخارج ابتداء من غير سبب إذا صلح للدلالة فهو دليل خارج يوجب القصر ولا خلاف في ذلك على المذاهب كلها‏.‏

المسألة الرابعة والعشرون‏:‏ ‏[‏حكم ذكر بعض أفراد العام الموافق له في الحكم‏]‏

ذكر بعض أفراد العام الموافق له في الحكم لا يقتضي التخصيص عند الجمهور‏.‏

والحاصل أنه إذا وافق الخاص العام في الحكم فإن كان بمفهومه ينفي الحكم عن غيره فمن أخذ بمثل ذلك المفهوم خصص به على الخلاف الآتي في مسألة التخصيص بالمفهوم وأما إذا لم يكن له مفهوم فلا يخصص به ومثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أيما إهاب دبغ فقد طهر» مع قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر في شاة ميمونة دباغها طهورها فالتنصيص على الشاة في الحديث الآخر لا يقتضي تخصيص عموم أيما إهاب دبغ فقد طهر لأنه تنصيص على بعض إفراد العام بلفظ لا مفهوم له إلا مجرد مفهوم اللقب فمن أخذ به خصص به ومن لم يأخذ به لم يخصص به ولا متمسك لمن قال بالأخذ به كما سيأتي ومن أمثلة المسألة قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» وفي لفظ آخر وتربتها ظهورا وقوله الطعام بالطعام مع قوله في حديث آخر البر بالبر إلخ‏.‏

وقد احتج الجمهور على عدم التخصيص بالمواقف للعام وذكر الحكم على بعض الأفراد التي شملها العام ليس بمناف فلا يكون ذكره مخصصا وقد أنكر بعض أهل العلم وقوع الخلاف في هذه المسألة وقال لما كان أبو ثور ممن يقول بمفهوم اللقب ظن أنه يقول بالتخصيص وليس كذلك قال الزركشي فإن قلت‏:‏ فعلى قول الجمهور ما فائدة هذا الخاص مع دخوله في العام‏؟‏

قلت يجوز أن تكون فائدته عدم جواز تخصيصه أو التفخيم له أو إثبات المزيد له على غيره من الأفراد قال ابن دقيق العيد إن كان ابو ثور نص على هذه القاعدة فذاك وان كان اخذها له بطريق الاستنباط من مذهبه في مفهوم اللقب فلا يدل على ذلك‏.‏

المسألة الخامسة والعشرون‏:‏ ‏[‏تعليق الحكم على علة‏]‏

إذا علق الشارع حكما على علة هل تعم تلك العلة حتى يوجد الحكم بوجودها في كل صورة‏؟‏

فقال الجمهور بالعموم في جميع صور وجود العلة وقال القاضي أبو بكر لا يعم ثم اختلف القائلون بالعموم هل العموم باللغة أو بالشرع والظاهر أن ذلك العموم بالشرع لا باللغة فإنه لم يكن في الصيغة ما يقتضي ذلك بل اقتضى ذلك القياس وقد ثبت التعبد به كما سيأتي واحتج من قال بعدم العموم بأنه يحتمل أن يكون المذكور جزء علة والجزء الآخر خصوصية المحل وأجيب عنه بأن مجرد الاحتمال لا ينتهض للاستدلال فلا يترك به ما هو الظاهر ولكنه ينبغي تقييد هذه المسألة بأن يكون القياس الذي اقتضته العلة من الأقيسة التي ثبتت بدليل نقل أو عقل لا بمجرد محض الرأي والخيال المختل وسيأتي بمعونة الله إيضاح ذلك مستوفى‏.‏

المسألة السادسة والعشرون‏:‏ ‏[‏حكم العام إذا خص‏]‏

اختلفوا في العام إذا خص هل يكون حقيقة في الباقي أم مجازا‏؟‏

فذهب الأكثرون إلى أنه مجاز في الباقي مطلقا سواء كان ذلك التخصيص بمتصل أو منفصل وسواء كان بلفظ أو بغيره واختاره البيضاوي وابن الحاجب والصفي الهندي قال ابن برهان في الأوسط وهو المذهب الصحيح ونسبه إلكيا الطبري إلى المحققين ووجهة أنه موضوع للمجموع فإذا أريد به البعض فقد أريد به غير ما وضع له وذلك هو المجاز وأيضا لو كان حقيقة في البعض كما كان حقيقة في الكل لزم أن يكون مشتركا فيكون حقيقة في معنيين مختلفين والمفروض أنه حقيقة في معنى واحد وأيضا قد تقرر أن المجاز خير من الاشتراك كما تقدم فيكون مقدما عليه‏.‏

وذهب جماعة عن أهل العلم إلى أنه حقيقة فيما بقي مطلقا قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني وهذا مذهب الشافعي وأصحابه وهو قول مالك وجماعة من أصحاب أبي حنيفة ونقله ابن برهان عن أكثر الشافعية وقال إمام الحرمين هو مذهب جماعة الفقهاء وحكاه ابن الحاجب عن الحنابلة قالوا ووجه ذلك أن اللفظ إذا كان متناولا حقيقة باتفاق فالتناول باق على ما كان عليه ولا يضره طرد عدم تناول الغير وأجيب بأنه كان يتناوله مع غيره والآن يتناوله وحده وهما متغايران وقالوا أيضا أنه يسبق إلى الفهم من غير قرينة وأجيب بأنه إنما يسبق إلى الفهم مع القرينة إذ السابق مع عدمها هو العموم وهذا دليل المجاز قال العضد وقد يقال إرادة الباقي معلومة دون القرينة إنما المحتاج إلى القرينة عدم إرادة الإخراج انتهى‏.‏

ويجاب عنه بأنه إرادة الباقي وحده دون غيره يحتاج إلى قرينة وذهب جماعة إلى أنه أن خص بمتصل لفظي كالاستثناء فحقيقة وان خص بمنفصل فمجاز حكاه الشيخ أبو حامد وابن برهان وعبد الوهاب عن الكرخي وغيره من الحنفية‏.‏

قال عبد الوهاب هو قول أكثرهم قال ابن برهان وإليه مال القاضي ونقله عنه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع واحتجوا بأنه مع التخصيص بمتصل كلام واحد ويجاب بأن ذلك المخصص المتصل هو القرينة التي كان سببا لفهم ارادة الباقي من لفظ العموم وهو معنى المجاز ولا فرق بين قرينة قريبة أو بعيدة متصلة أو منفصلة وذهب عبد الجبار إلى عكس هذا القول حكى ذلك عنه ابن برهان في الاوسط ولا وجه له‏.‏

وحكى الآمدي أنه أن خص بدليل لفظي كان حقيقة في الباقي سواء كان ذلك المخصص اللفظ متصلا أو منفصلا وإن خص بدليل غير لفظي كان مجازا ولا وجه لهذا أيضا لأن القرينة قد تكون لفظية وقد تكون غير لفظية وحكى أبو الحسين في المعتمد عن عبد الجبار أنه أن خص بالشرط والصفة فهو حقيقة وإلا فهو مجاز ولا وجه له أيضا وقد استدل له بما لا يصلح للاحتجاج به على محل النزاع وقال أبو الحسين البصري إن كان المخصص مستقلا فهو مجاز سواء كان عقليا أو لفظيا وذلك كقول المتكلم بالعام أردت به البعض الباقي بعد الإخراج وان لم يكن مستقلا فهو حقيقة كالاستثناء والشرط والصفة‏.‏

واختار هذا فخر الدين الرازي فإنه قال في المحصول قول أبي الحسين وهو أن القرينة المخصصة إن استقلت بنفسها صار مجازا وإلا فلا وتقريره أن القرينة المخصصة المستقلة ضربان عقلية ولفظية أما العقلية فكالدلالة الدالة على أن غير القادر غير مراد بالخطاب بالعبادات وأما اللفظية فيجوز أن يقول المتكلم بالعام أردت به البعض الفلاني وفي هذين القسمين يكون العام مجازا والدليل عليه أن اللفظ موضوع في اللغة للاستغراق فإذا استعمل هو بعينه في البعض فقد صار اللفظ مستعملا في غير مسماه لقرينة مخصصة وذلك هو المجاز‏.‏

فإن قلت لم لا يجوز أن يقال لفظ العموم وحده حقيقة في الاستغراق ومع القرينة المخصصة حقيقة في الخصوص قلت فتح هذا الباب يفضي إلى أن لا يوجد في الدنيا مجازا أصلا لأنه لا لفظ إلا ويمكن أن يقال أنه وحده حقيقة في كذا ومع القرينة حقيقة في المعنى الذي جعل مجازا عنه والكلام في أن العام المخصوص بقرينة مستقلة بنفسها هل هو مجاز أم لا انتهى ويجاب عنه بمنع كونه يفضي إلى ذلك ومجرد إمكان أن يقال لا اعتبار به بل الاعتبار بالدلالة الكائنة في نفس الدال مع عدم فتح باب الإمكان المفضي إلى سد باب الدلالة مطلقا فضلا عن سد باب مجرد المجاز‏.‏

وحكى الآمدي عن أبي بكر الرازي أنه أن بقي بعد التخصيص جمع فهو حقيقة وإلا فهو مجاز واختاره الباجي من المالكية وهذا لا ينبغي أن يعد مذهبا مستقلا لأنه لابد أن يبقى أقل الجمع وهو محل الخلاف ولهذا قال القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي أن محل الخلاف فيما إذا كان الباقي أقل الجمع فأما إذا بقي واحد أو اثنان كما لو قال لو تكلم الناس ثم قال أردت زيدا خاصة فإنه يصير مجازا بل خلاف لأنه اسم جمع والواحد والاثنان ليسا بجمع انتهى وهكذا لا ينبغي أن يعد مذهبا مستقلا ما اختاره إمام الحرمين من أنه يكون حقيقة فيما بقي ومجازا فيما أخرج لأن محل النزاع هو فيما بقي فقط هل يكون العام فيه حقيقة أم لا‏؟‏

المسألة السابعة والعشرون‏:‏ ‏[‏حكم العام بعد تخصيصه‏]‏

اختلفوا في العام بعد تخصيصه هل يكون حجة أم لا‏؟‏

ومحل الخلاف فيما إذا خص بمبين أما إذا خص بمبهم كما لو قال تعالى‏:‏ اقتلوا المشركين إلا بعضهم فلا يحتج به على شيء من الإفراد بلا خلاف إذ ما من فرد إلا ويجوز أن يكون هو المخرج وأيضا إخراج المجهول من المعلوم يصيره مجهولا وقد نقل الإجماع على هذا جماعة منهم القاضي أبو بكر وابن السمعاني والأصفهاني‏.‏

قال الزركشي في البحر وما نقلوه فليس بصحيح وقد حكى ابن برهان في الوجيز فصحح العمل به مع الإيهام واعتل بأنا إذا نظرنا إلى فرد شككنا فيه هل من المخرج والأصل عدمه فيبقى على الأصل ونعمل به إلى أن نعمل بالقرينة بأن الدليل المخصص معارض للفظ العام وإنما يكون معارضا عند العلم به قال الزركشي وهو في الإضراب عن المخصص والعمل بالعام في جميع أفراده وهو بعيد وقد رد الهندي هذا البحث بأن المسألة مفروضة في الاحتجاج به في الكل المخصوص وغيره ولا قائل به انتهى وقال بعض الشافعية بإحالة هذا محتجا بأن البيان لا يتأخر وهذا يؤدي إلى تأخره وأما إذا كان التخصيص بمبين فقد اختلفوا في ذلك على أقوال‏:‏

الأول‏:‏ أنه حجة في الباقي وإليه ذهب الجمهور واختاره الآمدي وابن الحاجب وغيرهما من محققي المتأخرين وهو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة لأن اللفظ العام كان متناولا للكل فيكون حجة في كل واحد من أقسام ذلك الكل ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على السوية فإخراج البعض منها بمخصص لا يقتضي إهمال دلالة اللفظ على ما بقي ولا يرفع التعبد به ولو توقف كونه حجة في البعض على كونه حجة في الكل للزم الدور وهو محال وأيضا المقتضى للعمل به فيما بقي موجود وهو دلالة اللفظ عليه والمعارض مفقود فوجد المقتضى وعدم المانع فوجب ثبوت الحكم وأيضا قد ثبت عن سلف هذه الأمة ومن بعدهم الاستدلال بالعمومات المخصوصة وشاع ذلك وذاع وأيضا قد قيل أنه ما من عموم إلا وقد خص وأنه لا يوجد عام غير مخصص فلو قلنا أنه غير حجة فما بقي للزم إبطال كل عموم ونحن نعلم أن غالب هذه الشريعة المطهرة إنما يثبت بعمومات‏.‏

القول الثاني‏:‏ أنه ليس بحجة فيما بقي وإليه ذهب عيسى بن أبان وأبو ثور كما حكاه عنهما صاحب المحصول وحكاه القفال الشاشي عن أهل العراق وحكاه الغزالي عن القدرية قال ثم منهم من قال يبقى أقل الجمع لأنه المتيقن قال إمام الحرمين ذهب كثير من الفقهاء الشافعية والمالكية والحنفية والجبائي وابنه إلى أن الصيغة الموضوعة للعموم إذا خصت صارت مجملة ولا يجوز الاستدلال بها في بقية المسميات إلا بدليل كسائر المجازات وإليه مال عيسى بن أبان انتهى واستدلوا بأن معنى العموم حقيقة غير مراد مع تخصيص البعض وسائر ما تحته من المراتب مجازات وإذا كانت الحقيقة غير مرادة وتعددت المجازات كان اللفظ مجملا فيها فلا يحمل على شيء منها وأجيب بأن ذلك إنما يكون إذا كانت المجازات متساوية ولا دليل على تعين أحدهما وما قدمنا من الأدلة فقد دلت على حمله على الباقي فيصار إليه‏.‏

القول الثالث‏:‏ أنه إن خص بمتصل كالشرط والصفة فهو حجة فيما بقي وإن خص بمنفصل فلا بل يصير مجملا حكاه الأستاذ أبو منصور عن الكرخي ومحمد بن شجاع الثلجي بالمثلثة والجيم قال أبو بكر الرازي كان شيخنا أبو الحسن الكرخي يقول في العام إذا ثبت خصوصه سقط الاستدلال باللفظ وصار حكمه موقوفا على دلالة أخرى من غير فيكون بمنزلة اللفظ وكان يفرق بين الاستثناء المتصل باللفظ وبين الدلالة من غير اللفظ فيقول أن الاستثناء غير مانع بقاء اللفظ فيما عدا المستثنى انتهى ولا يخفاك أن قوله سقط الاستدلال باللفظ مجرد دعوى ليس عليها دليل وقوله وصار حكمه الخ ضم دعوى إلى دعوى والأصل بقاء الدلالة والظاهر يقتضي ذلك فمن قال برفعها أو بعدم ظهورها لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ولا دليل أصلا‏.‏

القول الرابع‏:‏ إن التخصيص إن لم يمنع استفادة الحكم بالاسم وتعلقه بظاهره جاز التعلق به كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقتلوا المشركين‏}‏ لأن القيام الدلالة على المنع من قتل أهل الذمة لا يمنع من تعلق الحكم وهو القتل باسم المشركين وإن كان يمنع من تعلق الحكم بالاسم العام ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعلق به كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏}‏ لأن قيام الدلالة على اعتبار النصاب والحرز وكون المسروق لا شبهة للسارق فيه بمنع من تعلق الحكم وهو القطع بعموم اسم السارق ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه ظاهر اللفظ وإليه ذهب أبو عبد الله البصري تلميذ الكرخي ويجاب عنه بأن محل النزاع دلالة اللفظ العام على ما بقي بعد التخصيص وهي كائنة في الموضعين والاختلاف بكون الدلالة في البعض الآخر باعتبار أمر خارج لا يقتضي ما ذكره من التفرقة المفضية إلى سقوط دلالة الدال أصلا وظاهرا‏.‏

القول الخامس‏:‏ إن كان لا يتوقف على البيان قبل التخصيص ولا يحتاج إليه كاقتلوا المشركين فهو حجة لأن مراده بين قبل إخراج الذمي وإن كان يتوقف على البيان ويحتاج إليه قبل التخصيص فليس بحجة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أقيموا الصلاة‏}‏ فإنه يحتاج إلى البيان قبل إخراج الحائض ونحوها وإليه ذهب عبد الجبار وليس هو بشيء ولم يدل عليه دليل من عقل ولا نقل‏.‏

القول السادس‏:‏ أنه يجوز التمسك به في أقل الجمع لأنه المتعين ولا يجوز فيما زاد عليه هكذا حكى هذا المذهب القاضي أبو بكر والغزالي وابن القشيري وقال أنه يحكم وقال الصفي الهندي لعله قول من لا يجوز تخصيص التثنية وقد استدل لهذا القائل بأن أقل الجمع هو المتيقن والباقي مشكوك فيه ورد بمنع كون الباقي مشكوكا فيه لما تقدم من الأدلة‏.‏

القول السابع‏:‏ أنه يتمسك به في واحد فقط حكاه في المنخول عن أبي هاشم وهو أشد تحكما مما قبله‏.‏

القول الثامن‏:‏ الوقف فلا يعمل به إلا بدليل حكاه أبو الحسين بن القطان وجعله مغايرا لقول عيسى بن أبان ومن معه وهو مدفوع بأن الوقف إنما يحسن عند توازن الحجج وتعارض الأدلة وليس هناك شيء من ذلك‏.‏

المسألة الثامنة والعشرون‏:‏ ‏[‏حكم العام إذا عطف‏]‏

إذا ذكر العام وعطف عليه بعض أفراده مما حق العموم أن يتناوله، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى‏}‏ فهل يدل ذكر الخاص على أنه غير مراد باللفظ العام أم لا‏؟‏

وقد حكى الروياني في البحر عن والده في كتاب الوصية أنه حكى اختلاف العلماء في هذه المسألة فقال بعضهم هذا المخصوص لا يدخل تحت العام لأنا لو جعلناه داخلا تحته لم يكن لإفراده بالذكر فائدة‏.‏

قال الزركشي في البحر وعلى هذا جرى أبو علي الفارسي وتلميذه ابن جني وظاهر كلام الشافعي يدل عليه فانه قال في حديث عائشة في الصلاة الوسطى وصلاة العصر أنه يدل على أن الصلاة الوسطى ليست العصر لأن العطف يقتضي المغايرة قال الروياني أيضا‏.‏

وقال بعضهم هذا المخصوص بالذكر هو داخل تحت العموم وفائدته التأكيد وكأنه ذكر مرة بالعموم ومرة بالخصوص وهذا هو الظاهر وقد أوضحنا هذا المقام بما لا مزيد عليه في شرحنا للمنتقى وإذا كان المعطوف خاصا فاختلفوا هل يقتضي تخصيص المعطوف عليه أم لا‏؟‏

فذهب الجمهور إلى أنه لا يوجبه وقالت الحنفية يوجبه وقيل بالوقف ومثال هذه المسألة صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده» فقال الأولون لا يقتل المسلم بالذمي لقوله لا يقتل مؤمن بكافر وهو عام في الحربي والذمي لأنه نكرة في سياق النفي وقالت الحنفية بل هو خاص والمراد به الكافر الحربي بقرينة عطف عليه وهو قوله ولا ذو عهد في عهده فيكون التقدير ولا ذو عهد في عهده بكافر قالوا والكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي فقط بالإجماع لأن المعاهد يقتل بالمعاهد فيجب أن يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم هو الحربي تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه قال الأولون وهذا التقدير ضعيف لوجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن العطف لا يقتضي الاشتراك بين المتعاطفين من كل وجه‏.‏

الثاني‏:‏ أن قوله ولا ذو عهد في عهده كلام تام فلا يحتاج إلى إضمار قوله بكافر لأن الإضمار خلاف الأصل والمراد حينئذ أن العهد عاصم من القتل وقد صرح أبو عبيد في غريب الحديث بذلك فقال أن قوله ولا ذو عهد جملة مستأنفة وإنما قيده بقوله في عهده لأنه لو اقتصر على قوله ولا ذو عهد لتوهم أن من وجد منه العهد ثم خرج منه لا يقتل فلما قال في عهده علمنا اختصاص النهي بحالة العهد‏.‏

الثالث‏:‏ أن حمل الكافر المذكور على الحرب يلا يحسن لأن إهدار دمه معلوم من الدين بالضرورة فلا يتوهم أحد قتل مسلم به وقد أطال أهل الأصول الكلام في هذه المسألة وليس هناك ما يقتضي التطويل وقد قيل على ما ذهب إليه الأولون ما وجه الارتباط بين الجملتين إذ لا يظهر مناسبة لقوله ولا ذو عهد في عهده مطلقا مع قوله لا يقتل مسلم بكافر‏.‏

وأجاب عن ذلك الشيخ أبو إسحاق والسلام لا يقتل مسلم بكافر حتى أن ينجرد هذا عدا الكلام فتحملهم العداوة الشديدة بينهم على قتل كل كافر من معاهد وغيره فعقبه بقوله ولا ذو عهد في عهده‏.‏

المسألة التاسعة والعشرون‏:‏ ‏[‏حكم العمل بالعام قبل البحث عن المخصص‏]‏

نقل الغزالي والآمدي وابن الحاجب الإجماع على منع العمل بالعام قبل البحث عن المخصص‏.‏

واختلفوا في قدر البحث والأكثرون قالوا إلى أن يغلب الظن بعدمه وقال القاضي أبو بكر الباقلاني إلى القطع به وهو ضعيف إذ القطع لا سبيل إليه واشتراطه يفضي إلى عدم العمل بك لعموم واعلم أن في حكاية الإجماع نظرا فقد قال في المحصول قال ابن شريح لا يجوز التمسك بالعام ما لم يستقص في طلب المخصص فإذا لم يوجد بعد ذلك المخصص فحينئذ يجوز التمسك به في إثبات الحكم وقال الصيرفي يجوز التمسك به ابتداء ما لم يظهر دلالة مخصصة واحتج الصيرفي بأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص لم يجز التمسك بالحقيقة إلا بعد البحث هل يوجد ما يقتضي صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز وهذا باطل فذاك مثله بيان الملازمة أنه لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص لكان ذلك لأجل الاحتراز عن الخطأ المحتمل وهذا المعنى قائم في التمسك بحقيقة اللفظ فيجب اشتراكهما في الحكم وبيان أن التمسك بالحقيقة لا يتوقف على طلب ما يوجب العدول إلى المجاز هو أن ذلك غير واجب في العرف بدليل أنهم يحملون الألفاظ على ظاهرها من غير بحث عن أنه هل وجد ما يوجب العدول أم لا وإذا وجب ذلك في العرف وجب أيضا في الشرع لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن»‏.‏

والأمر الثاني أن الأصل عدم التخصيص وهذا يوجب ظن عدم التخصيص فيكفي في إثبات ظن الحكم واحتج ابن شريح أن بتقدير قيام المخصص لا يكون العموم حجة في صورة التخصيص فقبل البحث عن وجود المخصص يجوز أن يكون العموم حجة وأن لا يكون والأصل أن لا يكون حجة لأن إجراءه على العموم أولى من حمله على التخصيص ولما ظهر هذا القدر من التفاوت كفى ذلك في ثبوت الظن انتهى كلام المحصول وما ذكره من أن ما وجب في العرف وجب في الشرع ممنوع وما استدل به زاعما أنه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يثبت من وجه معتبر ولا شك أن الأصل عدم التخصيص فيجوز التمسك بالدليل العام لمن كان من أهل الاجتهاد الممارسين لأدلة الكتاب والسنة العارفين بها فإن عدم وجود المخصص لمن كان كذلك يسوغ له التمسك بالعام بل هو فرضه الذي تعبده الله به ولا ينافي ذلك تقدير وجود المخصص فإن مجرد هذا التقدير لا يسقط قيام الحجة بالعام ولا يعارض أصالة عدم الوجود وظهوره‏.‏

المسألة الموفية ثلاثين‏:‏ في الفرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص

قال الشيخ أبو حامد في تعليقه في كتاب البيع والفرق بينهما أن الذي أريد به الخصوص ما كان المراد أقل وما ليس بمراد هو الأكثر وقال أبو علي بن أبي هريرة العام المخصوص المراد به هو الأكثر وما ليس بمراد هو الأقل قال ويفترقان أن العام الذي أريد به الخصوص ما يكون المراد باللفظ أقل وما ليس بمراد باللفظ اكثر‏.‏

والثاني‏:‏ أن المراد فيما أريد به الخصوص متقدم على اللفظ وفيما أريد به العموم متأخر عن اللفظ أو مقترن به وقال ابن دقيق العيد في شرح العنوان أن يتنبه للفرق بين قولنا هذا عام أريد به الخصوص وبين قولنا هذا عام مخصوص فإن الثاني أعم من الأول ألا ترى أن المتكلم إذا أراد باللفظ أولا ما دل عليه ظاهر العموم ثم أخرج بعد ذلك بعض ما دل عليه اللفظ كان عاما مخصوصا ولم يكن عاما أريد به الخصوص ويقال إنه منسوخ بالنسبة إلى البعض الذي أخرج وهذا متوجه إذا قصد العموم بخلاف ما إذا نطق بالعام مريدا به بعض ما يتناوله قال الزركشي وفرق بعض الحنابلة بينهما بوجهين الآخرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المتكلم إذا أطلق اللفظ العام فإن أراد به بعضا معينا فهو العام الذي أريد به الخصوص وإن إراد سلب الحكم عن بعض منه فهو العام المخصوص مثاله قام الناس فإذا أردت به سلب القيام عن زيد فهو عام مخصوص‏.‏

والثاني‏:‏ أن العام الذي أريد به الخصوص إنما يحتاج إلى دليل معنوي يمنع إرادة الجميع فيتعين له البعض والعام المخصوص يحتاج إلى تخصيص اللفظ غالبا كالشرط والاستثناء والغاية قال وفرق بعض المتأخرين بأن العام الذي أريد به الخصوص هو أن يطلق العام ويراد به بعض ما يتناوله وهو مجاز قطعا لأنه استعمال اللفظ في بعض مدلوله وبعض الشيء غيره قال وشرط الإرادة في هذا أن تكون مقارنة لأول اللفظ ولا يكفي طردها في أثنائه لأن المقصود منها نقل اللفظ من معناه إلى غيره واستعماله في غير موضعه وليست الإرادة فيه إخراجا لبعض المدلول بل إرادة استعمال اللفظ في شيء آخر غير موضعه كما يراد باللفظ مجازه وأما العام المخصوص فهو العام المخصوص فهو العام الذي أريد به معناه مخرجا منه بعض أفراده فلا يشترط مقارنتها لأول اللفظ ولا تأخرها عنه بل يكفي كونها في أثنائه كالمشيئة في الطلاق وهذا موضع خلافهم في أن العام المخصوص مجاز أو حقيقة ومنشأ التردد أن إرادة إخراج بعض المدلول هل يصير اللفظ مرادا به الباقي أو لا وهو يقوى كونه حقيقة لكن الجمهور على المجاز والنية فيه مؤثرة في نقل اللفظ عن معناه إلى غيره‏.‏

وقال علي بن عيسى النحوي إذا أتى بصورة العموم والمراد به الخصوص فهو مجاز إلا في بعض المواضع إذا صار الأظهر الخصوص كقولهم غسلت ثيابي وصرمت نخلي وجاءت بنو تميم وجاءت الأزد انتهى قال الزركشي وظن بعضهم أن الكلام في الفرق بينهما مما أثاره المتأخرون وليس وكذلك فقد وقعت التفرقة بينهما في كلام الشافعي وجماعة من أصحابنا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأحل الله البيع‏}‏ هل هو عام مخصوص أو عام أريد به الخصوص انتهى‏.‏

ولا يخفاك أن العام الذي أريد الخصوص هو ما كان مصحوبا بالقرينة عن التكلم به على إرادة المتكلم به بعض ما يتناوله بعمومه وهذا لا شك في كونه مجازا لا حقيقة لأنه استعمال اللفظ في بعض ما وضع له سواء كان المراد منه أكثره أو أقله فإنه لا مدخل للتفرقة بما قيل من إرادة الأقل في العام الذي أريد به الخصوص وإرادة الأكثر في العام المخصوص وبهذا يظهر لك أن العام الذي أريد به الخصوص مجاز على كل تقدير وأما العام المخصوص فهو الذي لا تقوم قرينة عند تكلم المتكلم به على أنه أراد بعض أفراده فيبقى متناولا لأفراده على العموم وهو عند هذا التناول حقيقة فإذا جاء المتكلم بما يدل على إخراج البعض منه كان على الخلاف المتقدم هل هو حقيقة في الباقي أم مجاز‏.‏